تحت وطأة الحرب العالمية الأولى التي اندلعت وانتشر لهيبها مع لهيب صيف عام 1914، وانتهت بتساقط دول كتساقط أوراق خريف عام 1918، بدا المشهد العالمي مثخناً بتبعات ويلات هذه الحرب العظمى، فقد رزحت عموم البشرية في كافة أنحاء العالم تحت مآلاتها ما بين تشريد ونزوح وتدمير وقتل وانهيار في كل معالم ومنظومات الحياة. حتى أتت معاهدة فرساي لتنهي فصل الحرب الطاحنة، وتعلن بدء فصل جديد للسلم والأمن الدوليين. تزامنت هذه الخطوة مع المبادئ الأربع عشرة التي أعلنها الرئيس الأمريكي وقتها وودرو ويلسون، لإعادة السلام والأمن لشعوب العالم وإبعاد شبح الحروب والنزاعات بين الأمم، تمخضت عنها فكرة إنشاء هيئة دولية لتحقيق هذه الغايات. وأعلن عن إنشاء عصبة الأمم في عام 1919، وبدأت أعمالها رسمياً في مطلع عام 1920.
سرعان ما بدأت تظهر الإخفاقات والثغرات في ميثاق هذه الهيئة الأممية، وازداد انكشاف حقيقتها بعد أن قررت فرض ما سمي بالانتداب الأوروبي على الدول العربية بعد انهيار الدولة العثمانية، ولا أبالغ في القول – مثل كثيرين- بأن عصبة الأمم مهدت الطريق أمام هجرة اليهود إلى فلسطين وقيام كيانهم المزعوم على أراضيها بفعل الانتداب البريطاني الذي أقرته على فلسطين وسكوتها المقيت عن وعد بلفور المشؤوم. فهل كان حقاً ويلسون يسعى إلى سلام وعدل وأمن لشعوب العالم؟ ذلك الذي لم تنجح كل محاولاته في إقناع مجلس الشيوخ الأمريكي بانضمام أمريكا لعصبة الأمم.
ولأن الواقع كان منافياً بالمطلق لكل شعاراتها ومبادئها التي بقيت حبراً على ورق، فقد فشلت عصبة الأمم بكل المقاييس وعلى مختلف الأصعدة في تحقيق أي منها؛ فقد أظهرت الممارسة الفعلية لقرارات العصبة وميثاقها وجود ثغرات وعيوب كبيرة في هذا الميثاق، من أهمها أنه لم يحرم الحرب تحريماً قطعيًا ولم يقر مبدأ التحكيم الإلزامي أو يجعل ولاية المحكمة الدائمة للعدل الدولي إلزامية في كل المنازعات ذات الطابع القانوني، كما لم تتوافر للعصبة أداة عسكرية مستقلة عن الدول الأعضاء لاستخدامها في صد وردع العدوان على دول المجتمع الدولي سواء الدول الأعضاء أو غير الأعضاء، فضلًا عما اشترطته بنود الميثاق من ضرورة توافر إجماع للدول الأعضاء سواء في الجمعية أو المجلس التابع للعصبة لإصدار القرارات ، الأمر الذي جعل من الصعوبة بمكان صدور هذه القرارات على الشكل وبالسرعة المطلوبين، وإحجام كل من بريطانيا وفرنسا عن الإيفاء بالالتزامات المنصوص عليها في ميثاق عصبة الأمم، وتفردهما بالقرارات السياسية والاستعمارية والتحكم والسيطرة التي فرضتها بريطانيا وفرنسا تحديداً على الدول الخاضعة لانتدابها، وغيرها من الإخفاقات التي واجهتها تجربة العصبة، إلى جانب انسحاب العديد من الدول من عضويتها؛ حتى بدا مشهد هذه الهيئة الدولية بمثابة شكليات واجتماعات لا قيمة لها ولا فائدة منها، وكل هذه الإخفاقات فرضت نفسها بقوة في ثنايا محاولة التنظيم الدولي التي جرت في أعقاب اندلاع الحرب العالمية الثانية ومثلت بحد ذاتها نقطة انعطاف حاد أكدت فشل العصبة وانهيارها ومهدت لقيام منظمة الأمم المتحدة عام 1945.
ليأتي دور جديد لمنظمة الأمم المتحدة، زعم مؤسسوها بأنه سيكون نصيراً لكل الشعوب المظلومة، وأن منبرها سيكون منصة العدل والمساواة بين كافة الشعوب، فضلاً عن مئات الأجهزة والمكاتب التي انبثقت عنها والتي تخصصت كل منها في مجال من مجالات التنمية والازدهار والنهضة وغيرها…
ويزداد الإصرار على التحكم بمصير الكثيرين في العالم من خلال اعتماد دول خمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وإعطائها حق الفيتو (أي النقض) ضد أي قرار لا ترى فيه مصلحة لها أو لمن يواليها. وهذا ما شهدناه على مدار ما يقارب ثمانين عاماً في مسيرة هذه المنظمة.
لقد بينت تبعات قرارات مجلس الأمن أن مصالح الدول الكبرى هي المتحكمة في قراراته وليس المصلحة الدولية العامة، فالتعامل مع الأحداث الدولية يتم بازدواجية، وبالنظر لتعقد العلاقات الدولية وظهور دول مهيمنة على العالم تتمتع بقدرات عسكرية وسياسية واقتصادية ، تعالت الأصوات بضرورة إصلاح مجلس الأمن ليكون قادرا على مواكبة التطورات الدولية الجديدة. وعلى الرغم من محاولات الأمم المتحدة لإصلاح هيكلتها وتعديل ميثاقها، لكنها لم تنجح في انتزاع الموافقة على قرارات مصيرية من تلك الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، والتي كانت مواقفها معادية لكل ما هو ضد مصالحها الاستعمارية، مع تفرد استثنائي للفيتو الأمريكي ضد أي قرار يتعلق بالقضية الفلسطينية. ولست بصدد سرد حيثيات الفيتو الأمريكي على طول عمر المأساة الفلسطينية هنا، ولكن يكفي الإشارة إلى أن أمريكا استعملت لحد الآن هذا الحق الجائر ضد كل ما يخص الشأن الفلسطيني أكثر من 46 مرة، تجلى آخرها فيما يعيشه أهلنا في قطاع غزة الذين يتنازع على قتلهم وإبادتهم الجوع، والقتل المتعمد، والأسر والاختطاف والإخفاء القسري، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الأساسية في العيش والحياة والتي طالما زخرفت مبادئ وبنود منظمة الأمم المتحدة، لكن تحقيقها كان وما يزال يتأطر بازدواجية غير مفسرة ترقى في كثير من الأحيان إلى حد اللا معقول واللا إنساني.
وبعد… ما الذي يفرق تجربة الأمم المتحدة عن عصبة الأمم في فشل كل منهما في إرساء دعائم العدل والسلم والأمن لكل شعوب العالم؟؟ هل كان من الحق أن يتم الاعتراف بكيان غاصب استعماري كدولة مستقلة لها سيادة وعضوية في منظمة الأمم المتحدة تحت مسمى إسرائيل؟ هل هذا الاعتراف ومنح ذلك الكيان عضوية فيها ينطبق عليه بنود وشروط الانضمام التي جاءت بها مواد وبنود ميثاق الأمم المتحدة؟؟؟ وهل من المعقول أن يحدث كل ما يحدث في غزة بشكل خاص وفي فلسطين عموماً ولا يحرك هذا المنبر الدولي ساكناً؟ ويكتفي بعرض مشاريع قرارات لا تغني ولا تسمن من جوع ثم يقصفها تعنتاً وجبروتاً وطغياناً فيتو أمريكي تماماً كما القنابل والمتفجرات التي تقصف أطفال ونساء وشيوخ غزة ليل نهار؟؟
ماذا عن منظمات الأمم المتحدة التي تدّعي دفاعها عن الحقوق الأساسية للبشر في كل أنحاء العالم كالصحة والتغذية والماء والدواء والتعليم والأمان وحماية الأطفال؟ أم أن الاستثناء الوحيد الذي كتب في ميثاق هذه المنظمة بحبر سري هي فلسطين وأهلها؟؟
أسئلة كثيرة تستدعي استحضار أسباب انهيار وحل عصبة الأمم، فما نشهده وشهدناه سابقاً من ظلم حقيقي وازدواجية في المعايير هو أصعب وأشد من تلك الحقبة التي أعلن بها انهيار عصبة الأمم…
إن الهيئة الدولية التي تعجز عن إدخال ماء وغذاء ودواء لشعب كامل يباد ليل نهار ولا تجرؤ هذه الهيئة على وقف كل ما يجري من انتهاكات جسيمة تخطت حدود العقل والضمير، ولا تتخذ خطوة صادقة تعكس ما تصدعت منه أركان قاعة اجتماعاتها من قرارات واستنكارات وإدانات فتقوم بتجميد عضوية الكيان الصهيوني على أقل تقدير كما فعلت مع الكثير من الدول سابقاً، إنما هي هيئة يجب أن نعلن وفاتها وانهيارها…
ماجستير صحافة وإعلام – الأردن