هل باتت القبلية واحدةً مِن حقائق حياتنا السياسية يصعب تجاوزها في الانتخابات وفي تشكيل الحكومات وفي صناعة القرارات؟ ومَن المسؤول عن عودتها إلى المجال العام، بالقوة والكثافة اللتين يلاحظهما البعضُ هذه الأيام؟ وهل أصبح لها مِن النفوذ والتأثير ما يجعلها تنافس الدولةَ وتخصم مِن قوتها مع مرور الوقت؟
الحقيقةُ أن الدور السياسي للقبيلة إنما صنعته الدولةُ نفسُها حين قررت بدايةً من مطلع التسعينيات أن تُضعِف المجتمعَ العصري، ممثلا في الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والنقابات العمالية والاتحادات الطلابية ومنظمات المجتمع المدني، والذي كان سودُاه الأعظم في ذلك الوقت يصطف ضِمن معارضة النظام القائم. عندها قررت السلطة أن تتعامل مع القبائل علناً وعلى المكشوف، بالاسم والصفة والرسم والوسم، مستقويةً بها ضد معارضيها السياسيين، فاستدعت زعاماتٍ تقليديةً كان الزمن قد أحالها إلى التقاعد، كما أجبرها التطورُ الذي شهده المجتمع في بُنياته التنظيمية والذهنية على التراجع نحو الصفوف الخلفية من المشهد.. بيد أن الاحتفاء بها في مكاتب القصر الرئاسي كان حقنةً منشطةً جددت «سر الشباب» لديها، كي تنبعث القبليّة مِن مرقدها القديم وتعود بقوة إلى الحقل العام.
وبطبيعة الحال فقد كانت القبيلة كإطار اجتماعي ونسق للقرابة والعلاقات الدموية قائمةً ومستمرة على الدوام، ولا يمكن كنسها من حياة المجتمع بأي حال من الأحوال، لكن روح العصبية القبلية كانت قد بدأت تضعف وتضمر بشكل ملحوظ خلال الستينيات والسبعينيات، تحت تأثير جملة من العوامل والتغيرات، بما في ذلك وجود إرادة سياسية عملت تدريجياً على تقليص دور النافذين القبليين، واتخذت سلسلةً من الإجراءات بغيةَ محاصرة الدور السياسي للقبيلة، فضلا عن الخطاب الرسمي الذي ظل يحض على ترسيخ الاندماج الوطني ويطالب بإحلال الدولة محل القبيلة وبتخطي بُنَيات ما قبل الدولة الوطنية، إلى جانب انتشار التعليم العصري، ونمو المدن جراء موجات الجفاف، والدور الذي لعبه الإعلام ممثلا بصفة خاصة في الإذاعة الوطنية وبرامجها السياسية والثقافية والفنية الموجَّهة. كما كان للحركات السياسية والتيارات الأيديولوجية منذ مطلع السبعينيات دور مهم آخر في إضعف النفَس القبلي وفي إحداث اندماج وطني داخل مختلف الفضاءات. وفي هذا الخضم يعرف الذين عاشوا في نواكشوط خلال السبعينيات والثمانينيات أنه نادراً ما يكون هناك ذكر للقبائل في الفضاءات العامة على الأقل مثل المدارس والثانويات والمكاتب الحكومية والاتحاد الطلابية والنقابات العمالية، وأن كثيراً من المسؤولين يأتون إلى مناصبهم ويغادرونها دون أن نعرف انتماءَهم القبلي.
وإن تغير هذا الوضع في ظل النظام العسكري الذي أعطى إشارات مبكرة على توجهات قبلية وفئوية داخل نواته الصلبة، فقد ظل التيارُ العام للموريتانيين متمسكاً بثقافة سياسية عصرية خالية من النزعات القبلية والاتجاهات الفئوية والميول الجهوية. وفي محاولة للتساوق مع هذا التيار العام، قال العقيد معاوية ولد الطايع بعد أشهر من وصوله إلى الحكم في منتصف الثمانينيات، مخاطباً الموريتانيين من مدينة النعمة: "الحكنا نوفاو من هاذو لقبيلات".
لكن بعض التطورات العالمية المتتالية في نهاية العقد ذاته وبداية العقد الذي يليه، مثل انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي وتهاوي أنظمة أوروبا الشرقية وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم كقطب وحيد أراد أن يفرض نموذجَه الديمقراطي الليبرالي الرأسمالي.. فرضت التحولَ نحو التعددية الحزبية والنظام الديمقراطي كطريق إجباري وحيد لا محيد عنه، كما قال الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران للزعماء الأفارقة المجتمعين لديه في قمة لابول. وبداية من تلك اللحظة قررت السلطة الموريتانية الحاكمة أن تجترح ديمقراطيةً مضمونةَ النتائج، ومن شأنها أن ترضي الرعاة الدوليين وتستجيب لمطالبهم، ألا وهي «ديمقراطية القبائل» بدلا من ديمقراطية الأحزاب، وهو ما اقتضى تقويةَ نفوذ القبائل وتوسيع دورها والعمل على محاصرة الأحزاب وإنهاكها وإضعافها، وذلك بجعل الوصول إلى الموارد العامة، المعنوية والمادية، يمر من خلال القناة القبيلة وحدها، وليس من خلال المؤسسات العمومية العصرية، لا الرسمي منها ولا الحزبي.
وفي الإطار العام لهذه الهندسة السياسية، أصبحت "لقبيلات" أكبرَ مصوِّت وليس الأحزاب، وبالتالي باتت أسماؤها تتردد يومياً في الفضاءات العامة، بما فيها أثير الإعلام العمومي والمكاتب والمقرات الحكومية.. وبات الموظف «العمومي» وكيلَ القبيلة وممثلها في قطاعه، والقائم على نصيبها من كعكة القطاع، وأصبح المواطن الذي يراجع مكاتب القطاع العام يُعرَّف بقبيلته، أي بقربه الدموي من المسؤول الفلاني أو العلاني.
وبدلا من أن تكون الديمقراطية وسيلةً لتطوير الحياة العامة وضمانةً لتطهيرها من الفساد والضعف والفشل والتأخر، عبر إيصال ممثلين أكفاء إلى مراكز التدبير والتأثير وصنع القرار، ومن خلال تقوية آليات المراقبة والمعاقبة، فقد ابتكرت هذه "الديمقراطية" مفهوماً خاصاً للمجتمع بوصفه قبائل تشتري الدولةُ ولاءَها وأصواتِها، وفَرضتْ المحاصصةَ القبليةَ في المناصب، وكرست النظرةَ الخاطئة إلى الدولة بوصفها غنيمةً يتقاسمها النافذون، وبصفة خاصة أبناء القبائل المعيَّنين الذين يَسوقونها كالمواشي إلى صناديق الانتخابات، ويحشدونها كالحيوانات خلال الزيارات الرئاسية. وكمكافأة لهؤلاء، تطلق الدولةُ أيديهم في المال العام يفعلون به ما يشاؤون، فيشترون الأتباع ويضعفون منافسيهم المحليين. وباستخدام ريع المال السياسي المتأتي من المناصب الممنوحة ترضيةً والميزانيات المتروكة سائبةً والصفقات الممنوحة مجامَلةً، يمارس أبناءُ القبائل السياسةَ في أشد صورها رداءةً ورجعيةً وإضراراً بالمجتمع وبمقدّرات البلد، وينشرون أكثر أنماط الثقافة السياسية تخلفاً وبدائيةً، وهي ثقافة تُعلي مِن شأن العصبيات النسَبية بوصفها إطار العمل السياسي وأساسه ومرجعه، مما أدى ويؤدي إلى إذكاء النزعات القبلية وإضعاف الروح الوطنية، في ظل تهشيم وتهميش المجتمع العصري ممثلا في أحزابه ونقاباته وهيئاته المدنية. ولا شك في أنها سياسة كانت عقيمة وقصيرة النظر، نَحصد اليوم ثمارَها المُرّةَ، حيث يشتكي الكثيرون حالياً مِن صعود القبيلة ومن تغولها على حساب الدولة ومفهوم الوطن.
وعلى ضوء ما وقع طوال 33 عاماً الماضية وما هو واقع الآن، يمكننا القول بدرجة عالية من الوثوق، إنه ما أن تتوقف الدولةُ عن تجييش القبائل في المواسم الانتخابية وعن تعبئتها خلال الزيارات الرئاسية، وعن التعيينات ومنح الأراضي ورخص الصيد ورخص التنقيب والصفقات العمومية والامتيازات التجارية والإعفاءات المالية.. على أساس قبلي، حتى تختفي القبليّة مِن تلقاء ذاتها، وتعود القبيلةُ كبنية اجتماعية إلى وضعها الحقيقي كنظام قرابي معرَّض للتآكل بسبب التغير الاجتماعي، وجراء تلاشي الأسرة الممتدة لصالح الأسرة النووية، وصعود الفردانية كمظهر آخر لنمو الحياة الحديثة وتوسع نطاقاتها في الاتجاهين الأفقي والعمودي معاً.. إلخ. وعندها ستكون تقوية القبيلة سياسةً من الماضي أملتها حساباتُ السلطة في مرحلة معينة، وأملت مصالحُ الوطن الإقلاعَ عنها الآن إلى غير رجعة، إدراكاً لعظيم مخاطرها ونبذاً لمرِّ ثمارها، ومعرفةً بهشاشة تماسُك بُناها التضامنية بالقياس إلى تمسّك أفرادها كلٌ منهم بمصلحته الخاصة فحسب.