قبل عامين صدرت السيرة الذاتية للرئيس السنغالي ماكي صال عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، وكان عنوانها "السنغال في القلب". وما يهمّني هنا في سيرة الرجل الذي يحكم بلاده من عام ٢٠١٢، أنه تكلم فيها عن حُلم يراوده للقارة السمراء التي ينتمي إليها، ولم يكن الحُلم سوى أنّ الرئيس صال يرى خلاص القارة الأفريقية في أن تتحوّل ذات يوم إلى الولايات المتحدة الأفريقية.
هو يرى خلاص أفريقيا في ذلك، ولا بد أنه يذكر كلمة خلاص عن قصد، لأن معناها أنّ دواء معاناة القارة يظل في أن تصير كما صارت الولايات المتحدة الأمريكية، التي بدأت من تجربة فيدرالية جمعت بين ١٣ ولاية عند البداية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم انتهت إلى خمسين ولاية تتشكل منها الدولة الأقوى في عالمنا المعاصر.
وسوف نلاحظ أنّ عدد الدول الأفريقية يساوي تقريبًا عدد الولايات الأمريكية، لأنّ القارة السمراء تضم ٥٤ دولة، بينما أمريكا تتشكل من ٥٠ ولاية. القضية ليست بالعدد طبعًا ولا بالكمّ، ولكنها بأشياء أخرى يمكن التعرّف عليها لمن يدرس كيف بدأت الولايات المتحدة، وكيف صارت في الآخر إلى ما صارت إليه أمامنا.
ولأنّ نصف عدد الدول العربية دول أفريقية، فليس من المبالغة في شيء أن نعتبر حُلم الرئيس السنغالي حُلمًا عربيًا أيضًا، وإذا شئنا الدقة قلنا إنه نصف حُلم عربي، أما النصف الآخر فتمثّله الدول العربية الواقعة في آسيا.
وكم تمنيت لو أنّ صال قد شرح في سيرته كيف يمكن أن يتحقق ما يحلم به، ولكنه لم يفعل وكأنه اكتفى بأن يكون كمن ألقى بذرة في أرض القارة، تاركًا البقية لمن يأتي من بعده فيعمل على أن يتعهدها، إلى أن تنمو وتصبح في حكم الشجرة التي تعطي ثمارها.
لا بد أنّ صاحب هذا الخلاص للقارة السمراء، كان يقدّم ما يراه خلاصًا، وفي ذهنه أنّ القارة الأفريقية كانت ٥٣ دولة إلى عام ٢٠١١، وأنّ انسلاخ جنوب السودان عن السودان في تلك السنة قد أضاف دولة أخرى للقارة، فبدت وكأنها تتجزّأ بدلًا من أن تتوحّد، غير أنّ هذا لن يمثّل عقبة كبيرة إذا ما أرسلت السماء للأفارقة رجلًا يؤمن بالفكرة فيأخذها الى الواقع الأفريقي الحيّ.
والخلاص الأفريقي الذي رآه ماكي صال من مكانه في أقصى غرب القارة، كان له ما يماثله أو يشبهه عربيًا، وكان المتطلعون إلى المستقبل بين العرب يرون أن حُلم الولايات المتحدة العربية يجب ألا يفارقنا، لأن كل مقتضيات إخراجه من دنيا الحُلم إلى عالم اليقظة متوفرة، ولكنها تنتظر مَنْ يجمعها في سياق واحد، من صلالة في سلطنة عُمان في أقصى جنوب شرق عالمنا العربي، إلى أصيلة في مملكة المغرب في أقصى شمال غرب عالمنا نفسه على شاطئ الأطلنطي.
والراجح أنّ خلاصًا عربيًا من هذا النوع لا يمكن أن يتم في يوم وليلة، ولا يمكن أيضًا أن يصدر به قرار فيتحقق على الفور.. لا يمكن.. لأنّ الخلاصات المثيلة لم تتحقق هكذا، وربما يكون الخلاص الأوروبي متمثلًا في الاتحاد الأوروبي القائم، هو أقرب مثال وأصدق مثال كذلك، وهو أقرب بالمعنى الزماني وبالمعنى الجغرافي معًا، إذا اعتبرنا أنّ الخلاص الأمريكي بعيد عنا بالمعنيين، لأنّ قرنين ونصف القرن تفصل بيننا وبينه، ولأنّ محيطًا أطلنطيًا تعبره الطائرة في ست ساعات يجعله على شاطئ ويجعلنا على الشاطئ الآخر..
في مارس ١٩٤٥ كنا على موعد مع بداية من بدايات مثل هذا الخلاص الأوروبي، وكان ذلك عندما التقت سبع دول عربية على إرادة واحدة، فشكّلت فيما بينها كيانًا صار معروفًا فيما بعد بجامعة الدول العربية، وكانت الدول السبع التي أسّست هذا الكيان هي: مصر، السعودية، العراق، سوريا، لبنان، الأردن، ثم اليمن.
ورغم أنّ كيان الجامعة قد نما وتطوّر على مرّ الزمان، إلا أنّ نموّه كان في الحجم وليس في سواه تقريبًا، فأصبحت الدول السبع اثنتين وعشرين دولة، ولكنه ككيان بقي في مكانه إلا قليلًا، وإذا كان قد قطع خطوات في اتجاه يقترب به من الخلاص الأوروبي، لو جاز لنا أن نسمي الإتحاد الأوروبي خلاصًا، فالخطوات المقطوعة كانت ولا تزال دون الطموح الذي يراود كل عربي، ولكن بما أنّ أوروبا أقرب إلينا، وبما أننا شركاء معها في البحر المتوسط، وبما أننا لا يفصلنا عنها سوى هذا البحر، فلا يوجد شيء يمنعنا من أن نقتفي أثر اتحادها في مقرّه في بروكسل.
وإذا كانت كيانات أصغر قد راحت تنمو إلى جانب جامعة الدول باعتبارها الكيان الأمّ، وإذا كانت الكيانات الأصغر هي من نوعية الاتحاد المغاربي، واتحاد التعاون العربي، ومجلس التعاون الخليجي، فإنها لم تشكّل بديلًا ولن تشكّل في الغالب، لأنّ بعضها ما كاد يظهر حتى اختفى، بما يعني أنه لم يكن يصلح للحياة.
تجربة الاتحاد الأوروبي مرّت بالمراحل التي يمرّ بها الإنسان من يوم مولده، ولهذا نجحت وتنجح، والجامعة ليست في حاجة إلى شيء مختلف، وعندها ستكون خلاصًا للعرب بالمعنى الذي أراده الرئيس صال للقارة السمراء..