
شكلت جملة الانقلابات العسكرية التي حدثت مؤخرا في إفريقيا تحولات مفصلية سياسيا وعسكريا في مناطق النفوذ الفرنسي، إذ لا تكاد تنفصل البتة في صميمها عن جملة التطورات التي تشهدها الساحة الدولية بإعادة رسم معالم ما بعد النظام العالمي الجديد، أو كما أشار إليه وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والسبعون بقوله “النظام العالمي الجديد يولد بين أعيننا “.
حيث تعتبر كل من الصين وروسيا محورا جديدا في بنية ونسق العلاقات الدولية ليس فحسب جيوبوليتيكا، إنما كذلك اقتصاديا اعتمادا على نظرية الانتشار والتمدد، من خلال اتفاقيات التعاون العسكري والاقتصادي في القارة السمراء من قبل الدب الروسي والتنين الصيني، في إشارة إلى إعادة التموقع لكليهما على حساب القوى الغربية، وخاصة فرنسا التي أدركت مؤخرا أنها بدأت تتقهر في مستعمراتها بالأمس.
فحاليا، أضحى الخطاب السياسي للعديد من قادة القارة السمراء يطالب بضرورة إنهاء الإرث الاستعماري، كما جاء في كلمة زعيم بوركينافاسو العسكري “إبراهيم تراوري” في القمة الافريقية الروسية هذه السنة إثر لقائه مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، مؤكدا على ضرورة تعزيز التعاون الروسي – الإفريقي والتخلص من الهيمنة الامبريالية كما ورد في كلمته. ومع توالي الانقلابات في مالي والنيجر والغابون، وتشكيل تحالف بين كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو ظهر جليا أن التموقع الروسي والصيني على حساب التواجد الفرنسي-الغربي ينحو إلى ملء الفراغ في ظل متغيرات عديدة، ومن أهمها:
أولا- أن الصين أطلقت عنان قوتها الناعمة وكانت المبادرة إلى الاستثمارات الكبيرة في افريقيا بإرسالها جيوش من رجال الأعمال والاستثمارات بملايير الدولارات مع عدم التدخل في الشؤون السياسية مطلع التسعينات، بعد فشل السياسات الاقتصادية للنهوض باقتصاديات أغلب الدول الإفريقية المرتبطة بفرنسا، فالصين توفر رؤوس الأموال والسلع المختلفة بموجب اتفاقيات مقبولة، عكس الاتفاقيات مع فرنسا والولايات المتحدة التي تتميز بطول الأمد الزمني، ربط هذه البلدان بالهوية والثقافة الفرنسية، فقدان السيادة الوطنية واستقلالية القرار، والعمل على ترسيخ الأنظمة الموالية ولو كانت ديكتاتوية كما عبر عنه وزير الطاقة الفرنسي السابق” بيير فوما”، بالوقوف في وجه الديمقراطيات الناشئة المعارضة وتشكيل شركات كبرى ترعى المصالح الاقتصادية الفرنسية لربط هذه الدول ماليا وسياسيا واقتصاديا بباريس.
ثانيا- في ظل تجاذبات الحرب الباردة الجديدة وصراعها مع المعسكر الغربي تشكل روسيا خيارا مناسبا للانقلابين والمتطلعين من النخب الجديدة للتعاون العسكري في ظل تراجع غربي عن دعم القادة العسكريين الجدد، خاصة أن روسيا تستحوذ على 39 بالمئة من الصادرات الدولية من الأسلحة نحو إفريقيا، ولا يزال حضور ” قوات فاغنر” حتى بعد مقتل زعيمها قويا بمعدل 30 اتفاقا أمنيا مع جيوش إفريقية. في ذات الوقت يتقاطع الخطاب السياسي لروسيا في محاربة الامبريالية والاستعمار الجديد مع خطاب القادة الأفارقة الجدد، تحديدا بعد استعار أتون الحرب في أوكرانيا.
كما يشير تزايد تمركز قوات فاغنر في مالي وارتباطها في خط ممتد من مالي إلى ليبيا وتشاد إلى جعل روسيا قادرة على السيطرة على مناطق الموارد الطاقوية والطبيعية الغنية في إفريقيا، ويفتح لها أفقا شاسعا ما يشكل تحالفا ضمنيا ضد التهديدات الفرنسية، ذلك أن الحضور الفرنسي لمدة عقود من الزمن بعد استقلال هذه الدول جعلها تتقهقر وتكبل بسلسلة من الاتفاقيات اللا-متكافئة.
ثالثا- في المقابل يبدو الحضور التركي الذي بلغت استثماراته أكثر من 186 مليار دولار سنة 2020 كبيرا ولافتا للانتباه، إذ تجد تركيا متنفسا لها في افريقيا كمنجم طبيعي لمختلف الموارد الطاقوية والطبيعية المتنوعة بأسعار أقل، وشروط مرنة مقارنة بتعاملاتها مع دول أخرى، حيث فرضت تركيا نفسها سياسيا في ليبيا مقابل اتفاقيات مع حكومة طرابلس. وعلى الرغم من أن ليبيا كانت مستعمرة إيطالية وليست فرنسية، إلا أن أطماع الشركات الكبرى الفرنسية كانت تأمل في الحصول على استثمارات كبيرة في ليبيا بعد الإطاحة بنظام القذافي، بيد أن واقعا آخر فرض نفسه بعد ذلك.
من هنا ليس مستغربا أن يأتي قرار الرئيس الفرنسي “ايمانويل ماكرون ” مرغما بسحب سفيره من النيجر، وإلغاء الاتفاقيات المشتركة بين البلدين مؤخرا، بعد التعنت والإصرار على ضرورة إعادة الرئيس المطاح به “محمد بازوم” وتسليم العسكريين للسلطة، إلاّ أن كل المساعي الدبلوماسية والتهديدات العسكرية بايحاء فرنسي من خلال ” الاكواس” باءت بالفشل تسليما بالأمر الواقع، ما يعبر عن التراجع الفرنسي في القارة السمراء، وذلك نظرا لـ:
-فشل التدخلات العسكرية التي لم ولن تجد نفعا، كما فعلت في الغابون التي حدث بها انقلاب بدورها هذه السنة – كما النيجر ومالي ومن قبل بوركينافاسو-. سابقا، تدخلت باريس عسكريا بعد الإطاحة بالرئيس الغابوني “ليون مبا” بعد ثلاث سنوات من توليه السلطة سنة 1961 لإعادته على رأس السلطة، وفي “كوت دي فوار” تخلصت من الثائر “توماس سانكارا”، وفي موريطانيا قادت أربعة انقلابات، وآخرها الإطاحة بالعقيد الليبي معمر القذافي.
– الاستغلال المفرط للثروات البشرية والطبيعية والطاقوية، حيث تستفيد الشركات الفرنسية من امتيازات كبيرة في مجال استخراج الذهب واليورانيوم والبترول وغيرها من الموارد، مع ربط هذه البلدان بالبنوك الفرنسية، دون ظهور ملامح حقيقية للتنمية عبر زيادة مؤشرات التخلف في هذه الدول التي تفتقر لأدنى مستويات البنى التحتية.
ومع ذلك كان الرئيس الفرنسي قد أشار متأخرا في أكثر من مناسبة إلى ضرورة تغيير سبل التعامل والتعاون مع دول المستعمرات السابقة، لكن ذلك بقي مجرد دعاية إعلامية في مقابل سياسات مغايرة تؤدي حتما إلى تراجع مصالح فرنسا في القارة السمراء آجلا أو عاجلا.
باحث جزائري