اقترنت ظاهرة الانقلابات العسكرية في الدول النامية، بدور أميركي بارز في أغلبها، سواء لناحية التخطيط المسبق أو لجني مكاسب اقتصادية وسياسية ودعم الصفوف الأولى للانقلابات المتعددة، نظراً لتمثيلها شرائح اجتماعية واقتصادية محلية وثيقة الصلة بالغرب، وتحديداً مؤسستي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كمنفذ إجباري لتكريس تبعية البلاد للهيمنة الغربية.
الميول السياسية لمعظم قادة تلك الانقلابات في القارات النامية الثلاث، آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، تميّزت بإجراءات أمنية مفرطة القسوة داخلياً، وحكم استبدادي فاشي الطابع، وافتتاح سجون ومعتقلات لكل فئات الشعب المتنوّرة، واكبه تراجع ملحوظ في عملية التنمية المحلية وفتح أسواقها أمام المؤسسات الاقتصادية والمالية الغربية، والأميركية بشكل مباشر.
في أوج الحرب الباردة، خصوصاً في الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت انقلابات “مموّلة” أميركيا، وامتداداً بريطانياُ، مثل تركيا واليونان وإيران واندونيسيا، ودعمها نماذج الحكم الأشد يمينية وتطرفاً في كل من البرتغال وإسبانيا، في ظل معادلة الصراع الكوني على النفوذ العالمي في مقابل الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي السابق.
الولايات المتحدة في عموم القارة الإفريقية، وخصوصاً جنوب الصحراء الكبرى، ناصبت العداء لمعظم مجتمعاتها القبلية وحركات التحرر والاستقلال الوطني الوليدة، وفاقمت سياساتها بدعمها نظامي التفرقة العنصرية في كل من جنوب إفريقيا وروديسيا (زمبابوي) امتد لمرحلة متأخرة بعد نهاية الحرب الباردة.
وبعد استتاب نسبي للأمن الداخلي في دول أواسط إفريقيا، هي 7 دول منها الغابون، بحسب تعريف بنك التنمية الإفريقي، سارعت واشنطن إلى تكبيل تلك الدول بمعاهدات أمنية وعسكرية، ونيل موافقتها لإنشاء قواعد عسكرية أميركية متعددة المهام والبنى التحتية، وتوسيع رقعة انتشارها امتداداً من القرن الإفريقي إلى معظم الدول الإفريقية الأخرى.
شهدنا في الآونة الأخيرة بزوغ نزعة تحررية في بعض دول غربي إفريقيا، عنوانها الانفكاك من تبعية فرنسا، وإلغاء الاتفاقات السابقة التي تمنحها قواعد عسكرية، والتوجه نحو تصويب بوصلة التنمية المحلية التي لن يكتب لها النجاح من دون القضاء على النفوذ الفرنسي، سياسياً واقتصادياً، في المرحلة الأولى.
راقبت واشنطن انتكاسات فرنسا المتتالية في “مستعمراتها السابقة”، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ونسجت علاقات وثيقة بالمقابل مع معظم البنى العسكرية في تلك الدول، تدريباً وتسليحاً، ولم يسجّل استهداف مباشر لحضورها حتى الآن.
كما أخذت علماً لتباين الموقف الفرنسي الذي دان بشدّة حالة انقلاب النيجر في مقابل عدم تعرّضه سلباً لمجموعة ضباط انقلاب الغابون، ورفضت باريس طلب الضباط مغادرة السفير الفرنسي أراضي البلاد، ما اضطر المحكمة العليا إلى اتخاذ قرار بترحيله عنوة ونزع حصانته الديبلوماسية.
وعبّرت النخب السياسية والاقتصادية الأميركية عن رضاها لما حلّ بالوجود الفرنسي في دول الساحل الإفريقي، إذ شكّل “الانقلاب ضربة جديدة للمصالح الفرنسية في إفريقيا. وحظر قادة الغابون تصدير الخشب الخام ما يعني إلغاء فرص عمل في فرنسا” (صحيفة “نيويورك تايمز” 30 آب/ أغسطس 2023).
موقف واشنطن الرسمي من انقلاب الغابون تحديداً كان “مهذّباً” ديبلوماسياً بإعراب الناطق باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي عن “قلق” بلاده العميق من قادة الانقلاب. وفي موقف موازٍ أُطلق العنان لتصريحات بعض مسؤوليها لتسجيل “تحفظات” رسمية على نتائج الانتخابات الأخيرة في الغابون، وكذلك عدم رضاها عن رفض الرئيس المخلوع علي بانغو إشراف فرق أممية على سير الانتخابات التي كانت نتائجها سبباً مباشراً لتوقيت الانقلاب.
أوفدت واشنطن نائبة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند إلى جنوب إفريقيا لبحث عدد من الملفات المشتركة، ومنها حشد دعم بريتوريا لمساندتها في الغابون، وقد قوبلت باهتمام متواضع وتقييم ينبئ بجهلها أوضاع القارة السمراء وإرهاصاتها.
وقال مسؤول في حكومة جنوب إفريقيا: “عملت مع الأميركيين أكثر من 20 عاماً، ولم ألمس ردود أفعال مستميتة (مثل نولاند)، وفوجئت تماماً برياح التغيير التي تعصف بالمنطقة”.
للدلالة على تكيّف واشنطن، وربما تحضيراً لدور ما هناك، أفاد “معهد السلام الأميركي”، التابع لوزارة الخارجية، بضرورة “مبادرة المجتمع الدولي إلى إيلاء أولوية دعمه لتأييد إجراءات إصلاحية في مؤسسات الغابون الرسمية، والتي لا زالت ضعيفة، ودورها التاريخي كان في خدمة النخب” الحاكمة (“معهد السلام الأميركي”، 31 آب/أغسطس 2023).
تثير الولايات المتحدة تنامي حضور كلِّ من روسيا والصين في القارة الإفريقية، وتبني عليه خطابها السياسي وتوجهاتها “لتقويض” نفوذ منافسيها هناك.
يشار إلى حجم الاستثمارات الاقتصادية الضخمة، خصوصاً من الصين، والتي بلغت نحو 155 مليار دولار في الدول الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى في السنوات القليلة الماضية. في المقابل، كبّلت الولايات المتحدة العديد من الدول الإفريقية بقواعد عسكرية بذريعة مناهضة التيارات والمجموعات المتشددة، وإبرام اتفاقيات تمنحها حصانة من تطبيق السيادة الوطنية.
في المقابل، استضافت روسيا مؤتمراً لزعماء الدول الإفريقية أو من ينوب عنهم، أسفر عن اتفاقيات لزيادة التبادل التجاري، ووعود من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصدير الحبوب الروسية إلى إفريقيا مجاناً لإعانتها على تجاوز حالات المجاعة المتعددة.
اللافت في تداعيات انقلاب الغابون هو تعزيز بعض القادة الأفارقة المحليين أمنهم الشخصي، وبالتالي استدامة نظام الحكم. وقد خطا رئيس رواندا بول كيغامي على عجل بهذا الاتجاه بإقالته نحو 100 من كبار الضباط لتحصين موقعه الرئاسي من تحديات مفترضة.
من المبكّر حالياَ إصدار أحكام عن توجهات قادة الانقلاب محلياً ودولياً، نظراً إلى شح المعلومات الموثقة، باستثناءا ما يتم تداوله بأن “الغابون بلد غني بالنفط”، ولضبابية الأوضاع الانتقالية، التي أدى على أثرها رئيس مجموعة الضباط “ضمن لجنة المرحلة الانتقالية”، بريس أوليغي نغيما، اليمين الدستورية كرئيس مؤقت للبلاد، معرباً على الفور عن عزم مجموعة الضباط على التصدي لأي تدخل عسكري، وخصوصاً من رؤساء دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “إيكواس”