قد يكون الصعود للقمة بداية مرحلة صعود إلى ذروة جديدة، لكنه قد يصبح أيضا بداية للانهيار والسقوط. وليست هناك نهاية للتاريخ، كما يعتقد فرانسيس فوكوياما؛ فالتاريخ ممتد إلى ما شاء الله، لا ينتهي إلا بنهاية العالم. والقول بنهاية التاريخ يناقض فرضية أن التاريخ يقوم على الحركة والتغير، وهي الفرضية التي قال بها في العصر الحديث هيغل وماركس، كما اعترف بها فوكوياما أيضا، قبل أن يناقض نفسه بالقول بأن النظام الرأسمالي الليبرالي هو نهاية العالم.
في الوقت الحاضر تعيش الديمقراطية الليبرالية أزمة حادة، من أقصى الشرق، كما أنبأتنا من اليابان عملية اغتيال شينزو آبي في يوليو 2022، إلى أقصى الغرب، كما أنبأنا وضع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب المرشح الجمهوري المفضل حتى الآن للانتخابات الرئاسية المقبلة في قفص الاتهام الجنائي، ليس بسبب محاولة الانقلاب الشعبوي، التي قادها من وراء الستار في يناير 2021، ولكن بسبب قضية تتعلق بمحاولة تضليل العدالة في قضية أخلاقية. بين هاتين الواقعتين توجد العشرات من الأمثلة التي تخبرنا أن الديمقراطية الليبرالية الغربية في أزمة، من هذه الأمثلة صعود الشعبوية في المجر وإيطاليا والنمسا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها. لكن هذه الأزمة ليست نهاية التاريخ.
الإدارة الأمريكية، سواء كانت من الديمقراطيين أو الجمهوريين، ينبغي أن تعلم أن عرقلتها لصعود الصين لن يمنحها قوة البقاء وحدها على رأس العالم
صعود الشعبوية هو مجرد مظهر واحد من مظاهر أزمة الديمقراطية الليبرالية الغربية، وهو يثبت أن الديمقراطية يمكن أن تحمل في أحشائها نقيضها الذي يقضي عليها. ولا يكون النقيض تقدميا دائما. وهناك مثل شعبي مصري يقول «يخلق من ظهر العالِم فاسد، ومن ظهر الفاسد عالِم». وبعد أن صعدت الولايات المتحدة إلى ذروة قوتها بانتصارها في الحرب الباردة عام 1990، لتصبح بحق سيدة العالم والقوة الوحيدة المهيمنة، فإننا نرى علامات كثيرة سياسية واقتصادية وعسكرية، تخبرنا أن الولايات المتحدة فشلت في المحافظة على مكانتها العالمية كقوة إمبراطورية مهيمنة، وأنها بدأت بالفعل رحلة السقوط. ومن علامات التدهور الأخيرة، دخول الدولار الأمريكي، أهم وأعظم مقومات القوة الأمريكية حتى الآن، إلى مرحلة الانهيار والسقوط من مكانته كعملة مهيمنة في النظام النقدي الدولي. ومع ذلك فإننا ننبه هنا إلى خطأين يجب عدم الوقوع في أي منهما: الخطأ الأول هو أن الدولار يمكن أن يسقط في الأجل القصير، لأن السقوط عملية تاريخية ممتدة، وليست انتقالا من حالة إلى حالة. الخطأ الثاني هو الاعتقاد بأن سقوط الدولار من موقعه المهيمن يعني نهاية نفوذه تماما، ويوجب سرعة التخلص منه؛ فالدولار سيبقى على الأرجح واحدا من أهم العملات الرئيسية في العالم حتى نهاية القرن الحالي على الأقل، ولكنه لن يكون العملة المهيمنة. وفي هذا السياق فمن المرجح أن تنخفض قيمته بمرور الوقت. قبل إعلان ريتشارد نيكسون عام 1971 إنهاء العلاقة الثابتة بين الدولار والذهب، كان مبلغ 35 دولارا يشتري أوقية من الذهب، أما الآن فإن هذا المبلغ يشتري بالكاد ما يعادل 0.02 من الأوقية، إذ نحتاج اليوم إلى 1900 دولار أو أكثر لشراء الأوقية من الذهب، وإلى 55 دولارا لشراء ما كان يشتريه الدولار الواحد عام 1971.
ومنذ أصبحت الولايات المتحدة القوة المهيمنة في العالم، بدأ الدولار رحلة التراجع، التي زادت وتيرتها في السنوات القليلة الماضية، وتحول التراجع إلى تدهور. وتضمنت مرحلة التراجع انخفاض نصيب الدولار من الاحتياطي النقدي الدولي لدى البنوك المركزية من 70 في المئة تقريبا عام 2000 إلى 60 في المئة عام 2020، وفي قطاع الخدمات المالية ما يزال الدولار يهيمن على ما يقرب من 80 في المئة من الأنشطة، مثل التمويل وتداول الأوراق والمشتقات المالية، وإصدار القروض والسندات وأدوات تمويل الديون الخارجية كافة لدول وشركات العالم، إضافة إلى أنشطة التأمين وإعادة التأمين. هذا يؤكد أن البشرية ستعيش مع الدولار كعملة مهيمنة لفترة طويلة مقبلة، ربما تمتد إلى ما بعد منتصف القرن الحالي.
فقدان الثقة
يدفع الدولار من مكانته ونفوذه في الوقت الحاضر ثمنا باهظا، لسببين رئيسيين: الأول هو توظيفه سياسيا أو «تسييسه» من خلال العقوبات، لتحقيق أهداف الإدارة الأمريكية. والثاني هو «عسكرة السياسة الخارجية» للولايات المتحدة، وتحويل جزء كبير من الموارد لتمويل الإنفاق العسكري، حيث تنفق الولايات المتحدة ما يقرب من 40 في المئة من الإنفاق العسكري للعالم. كذلك فإن تجربة العالم مع الدولار منذ الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، تضمنت تحمل تكلفة الخروج من الأزمة، التي صنعها فساد وضعف مستوى انضباط النظام المصرفي الأمريكي، ثم الحرب التجارية وتكلفتها الاقتصادية على العالم، بما فيها العقوبات على روسيا عام 2014، وعلى إيران عام 2018، وعلى الصين في العام نفسه، ثم تكلفة جائحة كورونا، وما صحبها من خلق سيولة نقدية واسعة النطاق بواسطة بنوك الاحتياطي الفيدرالي، لتسيير عجلة الاقتصاد في الولايات المتحدة والدول الصناعية الغربية. وأخيرا تكلفة انهيار «سيليكون فالي بنك»، و»سيغنتشر بنك»، و»سيلفرغيت كابيتال كورب»، التي امتدت الى بنوك أخرى عالمية مثل «كريدي سويس»، الذي يملك البنك الأهلي السعودي أكبر حصة في رأسماله. هذه التجربة أطلقت عفريت التضخم من القمقم في العالم كله مع سياسة التوسع النقدي في عامي 2020 و2021. وبعد ذلك جاءت السياسة النقدية المتشددة، التي ما زال يقودها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، برفع أسعار الفائدة بمعدلات عالية ومتواصلة. وقد تسببت هذه السياسة في أضرار فادحة لكل دول العالم تقريبا، خصوصا الدول النامية غير المصدرة للنفط والغاز. وتعرضت هذه الدول لاضطراب قيمة عملاتها، وتضخم ديونها الخارجية وأعباء خدمتها، وتوقفت فيها إلى حد كبير الاستثمارات الأجنبية، بسبب هروب الأموال من الدول الأفقر إلى الدول الأغنى. ومع إدراك عدد متزايد من دول العالم حقيقة أن السياسة النقدية الأمريكية تقوم على أساس تقديم أولويات المصلحة القومية، على ما عداها، فإن خيار استمرار الاعتماد على الدولار بالدرجة السابقة نفسها، أصبح خيارا مرتفع التكلفة، ومرتفع المخاطر، ومحركا لعدم الاستقرار وليس العكس. ونظرا لأن ضغوط السياسة الخارجية الأمريكية الناتجة عن مبدأ «أمريكا أولا»، أصبحت هي الأخرى تمثل محركا من محركات عدم الاستقرار، فقد نشأ إدراك جديد، في عدد متزايد من بلدان العالم، بضرورة تقليل الاعتماد على الدولار، وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، لأنه كلما زاد الاعتماد عليهما، زادت حدة المخاطر المحتملة، وارتفع مستوى عدم الاستقرار المتوقع. وسعيا لتجنب التكلفة المالية والسياسية المرتفعة للاعتماد على الدولار، فإن عددا من الدول الرئيسية في الجنوب، بما فيها الصين والهند والسعودية وجنوب افريقيا والبرازيل، تعمل من دون كلل، من أجل تقليل هذا الاعتماد، بل إننا نشهد حالات صارخة، مثل حالة روسيا، بعد عقوبات حرب أوكرانيا، تتخذ قرارات بوقف التعامل بالدولار تجاريا، ولا تقبل التعامل به كعملة استثمار، ويتضمن ذلك تصفية استثماراتها في سندات الخزانة الأمريكية.
التغيرات الجيوستراتيجية
ما اعتبره فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ، وأن البشرية قد نضجت إلى أقصى درجة سياسيا واقتصاديا وأيديولوجيا، لم يصمد طويلا، حيث ظهرت عليه بسرعة أعراض التآكل الذاتي، ومفعول صراع المتناقضات الداخلية، ومن ثم فإن الدولار الذي تمتع لعقود طويلة بمكانة مهيمنة، أصبح معرضا لفعل محركات داخلية وخارجية، أدت إلى إضعافه. وتبين قراءة أدبيات الاقتصاد السياسي عند «بيكيتي» و»ستيغليتز» و»العريان» و»روبيني» و»جيفري ساكس» وغيرهم، إن النظام الأحادي القطبية يتعرض لأزمات مركبة، نتيجة ظهور مربكات ومخاطر ومهددات، تتطلب إدخال تعديلات هيكلية على النظام العالمي، بما في ذلك النظام النقدي، وإعادة كتابة قواعد إدارة هذا النظام، بما يسمح بقيام نظام عالمي متعدد الأقطاب، وإزالة ما تبقى من النظام الأحادي القطبية سلميا، في إطار متفق عليه بين القوى العالمية الرئيسية على الأقل، ومن بينها الولايات المتحدة. خطورة الموقف الأمريكي هنا تتمثل في أنه يعتبر أن أي محاولة لتهديد النظام الأحادي القطبية هي محاولة لتصفية المصالح القومية لها، وأن من يقومون
بذلك هم بالضرورة أعداء لها، وعلى رأسهم الصين، التي تعتبرها استراتيجية الدفاع القومي الأمريكية «الدولة الوحيدة في العالم التي تتكامل لديها النية والقدرة على إعادة رسم الخريطة الجيوستراتيجية للعالم». وانطلاقا من هذه النظرة تشن أمريكا حربا باردة متكاملة الأركان ضد الصين، لعرقلة صعودها. لكن الإدارة الأمريكية، سواء كانت من الديمقراطيين أو الجمهوريين، ينبغي أن تعلم أن عرقلتها لصعود الصين لن يمنحها قوة البقاء وحدها على رأس العالم، ولن يساعد الدولار على استمرار هيمنته على النظام النقدي العالمي، علما بأنه سيكون آخر رموز قوتها التي تسقط.
إبراهيم نوار- كاتب مصري