كان اليوم الأربعاء سبعة سبتمبر2016م عندما قررت القيام برحلة إلى زيرت البل.
في السابعة صباحا انطلقت سيرا على الأقدام لم يكن المكان بعيدا ,حوالي ثلاثة كيلو متر إلى الشمال الغربي من قرية الفوز ,في الطريق كنت أحدث نفسي عن ما قد أجده على هذه التلة الشهيرة كنت أتذكر أيام الصبا عندما كنا نرى زيرت البل متميزة عن كل الأماكن حولها فلم يكن في هذه المنطقة من الرمال إلا هي لذلك سميت زيرت البل لأن الإبل كانت تذهب إليها من كل نواحي المنطقة لتجد بها جو الصحراء الذي تحبه.
عندما انتهت الأماكن المكسوة بالنباتات والأشجار الخضراء وبدأت الصعود على التلة شعرت بأن شيئا ما يتغير. لم يعد شعوري كما كان قبل ذلك لاحظت أن الأشياء من حولي تتغير بدأت سرعة الرياح تتضاعف ودرجة الحرارة تنخفض شعرت وكأني أركب سيارة مكشوفة مسرعة مما اضطرني لتغطية أذني عن الرياح.
لاحظت أن النباتات تغيرت في السفوح العليا لهذه التلة توجد نباتات قليلة لكنها نباتات لم تعد موجودة بالمنطقة بعد أن كانت كثيرة فيها مثل (ألب)و(أكرف)و(أرماش) ثم تختفي هذه النباتات تاركة المجال للرمال الصافية التي لا يوجد بها أي أثر للحياة ,مع الارتفاع على هذه التلة تزداد الوحشة ويأخذك شعور بأنك تدخل زمنا آخر ,هنا بعض الحيوانات التي يبدو أنها لم تتعود على رؤية البشر,كان أولها ثعلب الفنك الصغير حيث تفاجأ برؤيتي مما جعله يهرب ذات اليمين ويجعل بيني وبينه تلا صغيرا لينحرف ذات الشمال محاولا مخادعتي إلا أن حساباته أخطأت ليجد نفسه أمامي مباشرة مما اضطره لترك المخادعة والانطلاق بسرعة حتى يبتعد عني.
هناك أيضا بومة كبيرة تقف تحت حافة رملية نحتتها الرياح حتى أصبحت مثل الكهف,إلا أنها لم تتحمل رؤيتي فطارت بعيدا عني.بعد ذلك سأقابل عجوزا من السلحفاة لا أدري كيف وصل إلى هذا المكان,إلا أنه كان وديعا ولم يحاول الاختباء بل ظل ينظر إلي وكأنه يريد مني بعض الأخبار.
على ظهر هذا المرتفع الرملي العريض الطويل تجد نفسك خارج الزمان والمكان فلا أثر أبدا لموسم الخريف الذي نحن فيه,كما أنه لا أثر للحياة المعاصرة كل ما هنا هو آثار لأمم قديمة تشعرك بأنك عدت إلى الوراء آلاف السنين.
هنا كشكول من الأدوات الخزفية والحجرية وقليل من الآلات الحديدية.
فكل شيء يختلف عن ما نعرف فالأواني والقدور الخزفية في كل مكان وكذلك آلات الطحن والحرب والصيد كل هذا تجده أمامك ,يبدو أن الإنسان القديم هنا كان همه الوحيد أن يأكل ويشرب ويدافع عن نفسه فكل الآثار هنا تدخل في هذا المجال.
تجد قدور الطبخ وأواني الأكل والشرب كما تجد آلات حجرية لطحن الحبوب تجد النبال والرماح التي تستخدم للصيد كما تجد البندق والخناجر والنصال التي تستخدم في الحرب,هناك سكين يبدو أنه مختلف عن تصميم السكاكين المعروفة لدينا جعلني أتساءل هل هو من نوع السكاكين التي أعطت امرأة عزيز مصر لصديقاتها عندما دعتهن ليشهدن جمال يوسف! لقد عرفت هذه التلة الحياة البشرية منذ غابر الأزمان كما تدل على ذلك هذه الآثار فعندما كانت الغابات الكثيفة تغطي كل شيء هنا مشكلة مناخا يتسم بقوة الضغط وارتفاع نسبة الرطوبة وكثرة الحشرات والوحوش كانت هذه التلة بسبب ارتفاعها تشكل استثناء في المنطقة حيث كان مناخها مناسبا للعيش من ما جعل الإنسان الإفريقي القديم يقرر بناء مساكن عليها واتخاذها مركزا لممارسة أنشطته.
يبدو أن الآثار تنطق بكل شيء من ما كان هنا قبل مئات السنين,فيمكنني تخيل ذلك الرجل الإفريقي الأسود قصير القامة مفتول العضلات شبه العاري من الثياب وهو يعود قبل غروب الشمس حاملا على ظهره بقرة وحش أو خنزيرا بريا قتله في أحد الأودية المجاورة ليجد زوجته قد قامت بطحن الحبوب التي جمعت من وسط الغابة و أعدتها للطبخ يضع الصيد أمام الكوخ الصغير الذي بني من الحشائش وأغصان الأشجار ثم يجر بعض الأخشاب ليضع بعضها فوق بعض قرب الكوخ ثم يشعل فيها النار عندها يكون الليل قد أرخا ستائره على كل شيء .
تجتمع الأسرة حول النار ليقوم الأب بشي اللحم وتقديمه لأسرته على مائدة من ورق الأشجار ويبدأ الجميع في تناول عشائه الشهي.في جو لا يعكره سوى أصوات الأسود والنمور والضباع التي تكاد تفقد صوابها بسبب رائحة اللحم ,حيث يقرر ضبع جائع الاقتراب من النار واختطاف بعض أجزاء اللحم التي رماها الصياد حوله مما جعل الضباع الأخرى تتجمع عليه محاولة الاستفادة من هذه الغنيمة محدثة أصوات وتدافعا قويا مما جر أحد الأسود الجائعة للاقتراب والتدخل منهيا صرعا داخليا بين الضباع كاد يسبب لبعضها الأذى إلا أنه يكتشف أن المعركة كانت على لا شيء تقريبا.
بعد العشاء تجلس الأسرة حول النار لتبادل أطراف الحديث فليس لهم حيوانات يقومون عليها ولا علم يشتغلون به , في هذا السمر لا أظن أن مجالات الحديث ستكون واسعة فالأب قد يتحدث عن مغامراته والوحوش التي اعترضت سبيله وكيف تمكن من التغلب عليها ,كما تتحدث الأم عن أماكن جمع الحبوب وما تعرضت له هناك .
قد يغني أحدهم بأغنية تمجد أحد أبطال الحي وكيف تغلب على الأسود والحيوانات المفترسة وكيف أخطأ أحدهم فقتلته ولكن ذلك لا ينفي عنه البطولة بل هو درس للاستفادة فقط.
هذا ما أظن أنه سيدور في هذه الجلسة ولكن مجرد تخيل, الشيء الوحيد الذي يمكنني تأكيده هو أن أي أحد من أفراد هذه الأسرة لن ينشغل عن محدثه بمتابعة الفيس بوك أو الوات آب أوغيرهما من وسائط الاتصال .
لن تتحدث الأم عن هاتف صديقتها الذي يكلف مئات الآلاف ولا عن سيارة زوج صديقتها التي حملهما فيها لزيارة صديقتهما التي رزقت مولودا جديدا ولا عن حفلة الاسم وما يجب أن تقدمه لصديقتها فيها والملاحف التي يجب أن تلبسها في هذا الحفل.
قد يتطرق الحديث إلى أماكن جديدة محتملة للصيد والجني ولكن هذا لا ينفي أن قدمي بدأت تتألم من المشي وبدأ الإحساس بالعطش يرتفع وطريق العودة طويل إلا أنه لا خيار سوى العودة قبل أن تنهار قوتي وأعجز عن السير.
بقلم محمد احمد ولد احمدو النائب الاول لعمدة بلدية ساني