نظرية العقد الإجتماعي من هوبز الى روسو/ عبدالعزيز لبيب

أربعاء, 08/17/2022 - 10:52

3- جون لوك: عقدُ تراضٍ لأجل دولة تشريع وتَقاضٍ

قلنا: إن الأمر يختلف عند جون لوك (1632-1704)، وهو الذي يعدّ أبًا روحيًّا لليبرالية الحديثة، فعلى الضد من هوبز يقف لوك ليقدم حالة الطبيعة كحالة مثلى دون اجتماع إنساني، ففيها يحيا الفرد من البشر حياة لها كل مقومات الوجود المستقل والمنظم بمقتضى القانون الطبيعي الساري نفوذه على جميع أفراد النوع البشري. وتعريف القانون الطبيعي عند لوك كونه سنة إلهية، أو قُلْ: قانونا فطريا وكليا يقام به العدل بين البشر في الحالة الطبيعية، ويظل بعد ذلك قاعدة تُسَنّ عليها قوانينهم ومؤسساتهم السياسية في الحالة المدنية متى انتقلوا إليها، وطالما لم يقاوموه، وطالما استعملوا العقل واحتكموا إليه. وهو ملزم لهم جميعا ولكل فرد منهم؛ ومفاده أنه بقدر ما يَلزم كل فرد من الناس أن يحمي حياته وأملاكه، وأن يحفظ حريته وسائر حقوقه الطبيعية -بما في ذلك حقه في إقامة العدل بنفسه كالاقتصاص من شخص اعتدى عليه وظلمه- يلزمه كذلك أن يحترم حقوق غيره من الناس وحقوق النوع البشري بأكمله. فإنه لمن المنافي للعقل -بحسب القانون الطبيعي- أن يقوم الشخص بتدمير ذاته؛ فهو ملك لخالقه من حيث هو مخلوق لا يحق له وضع حد لحياته. وبالمقابل، فإن حفظ الذات يستوجب حفظ النوع سواء في كله أو في كل فرد منه. وما يعنيه ذلك بالنظر إلى فلسفة لوك الليبرالية هو أن الحرية التي يتمتع بها الفرد الطبيعي، ولئن كانت واسعة النطاق بما لا يقاس، فليست مطلقة؛ وإنَّما مقيدة بقانون أو بناموس، وهو الناموس الطبيعي. وهذا الشأن هو الشأن كذلك بالنسبة للحالة الطبيعية، فهي -ولئن لم تكن منظمة تنظيما اصطناعيا- ليست بحالة فوضى.

وما سريان القانون الطبيعي على هذا النحو بين البشر إلاّ لأمرين: أولهما: أن العناية الربّانية قد نقشت -بحسب لوك- هذا القانون في قلب الإنسان. وثانيهما: أنه يعمل عمل القوة الفيزيائية لِماَ له من طابع كلي. فأما من حيث "ما في القلب"؛ أي ما في الشعور، فهو بمثابة الضمير الأخلاقي. وأما من حيث عنصره الطبيعي الكلي، فهو بمثابة العقل. ولذلك فإن وضع الإنسان "الطبيعي" وضع هانئ، بل ويكاد يكون كاملا، لما يسود الحالة الطبيعية من وئام وسلم بين هذه الذوات البشرية من غير أن يكبحها كابح أو يزعها وازع أو تحكمها مؤسسة سياسية. وفيها أيضا يكون الفرد مستقلا ومكتسبا لقدراته الجسمانية والمعنوية ولحقوق مقدسة، وهي:

أولا -الحرية، وتتعين عند لوك بالتمييز بين الحرية الطبيعية والحرية المدنية. فأما الأولى -وهي الطبيعية- فهي التي تقتضي -كما يقول- "ألاّ يكون الإنسان خاضعا لأية قوة عليا على الأرض، وألا يقع تحت إرادة إنسان أو سلطته التشريعية، وألا يكون لديه سوى قانون الطبيعة قاعدة يعمل بها". وأما الثانية -وهي المدنية- فتقتضي "ألا يخضع الإنسان لأية سلطة تشريعية سوى تلك التي تقوم على الرضا بين الجماعة، وألا يقع تحت سيطرة أية إرادة أو أي قيد قانوني سوى ما يضعه المشرّع طبقا للأمانة التي عُهد بها إليه". ومما تعنيه الحرية الطبيعية هو استقلال الفرد استقلالا حقوقيا في سياق "فراغ قانوني"، واستقلالا "اقتصاديا" من حيث تدبير وسائل العيش المباشرة؛ ولكن هذا الضرب من الاستقلال لا ينفي تبادل الأفراد المستقلين لثمار عملهم بعضهم مع بعض، ولا إبرام العقود والمواثيق بينهم ، بل ويوجب القانون الطبيعي التناسل البشري وإقامة الأسر الطبيعية لأجل حفظ النوع.

ثانيا - الملكية الطبيعية، وهي أشد المفاهيم "اعتياصا" عند لوك؛ وذلك لتعدد معانيها واستخداماتها طَي الرسالة الثانية في الحكم المدني، وارتباطها المتشعب بمفاهيم وبمسائل أخرى، كالحرية، والعمل، والمال المنقول وغير المنقول، والمال العيني والمال الافتراضي، والملْك الخاص والعام، والمشاع والمحوّز. ولذلك فالملكية من أمُهَّاتِ المسائل لا تُدرَك دونها فلسفةُ لوك العملية والأنتربولوجية، ومنها فلسفته السياسية بالخصوص. ومن أهم معانيها -من منظور هذا البحث وفي حدوده الضيقة- كون الملكية الطبيعية هي -أوّلا وقبل كل شيء- ملكية الإنسان لشخصه ولبدنه ولحريته ولحقه في استخدام قواه كما يروق له؛ إذْ لا وجود للفرد من الإنسان -في نظر لوك- إلا بوجود الملكية الخاصة وبحرية التصرف فيها. غير أن قيمة لوك منظر الليبرالية الفذّ -في هذا الباب وفي عصره- لا تكمن في هذه التعريفات؛ وإنما في تحديد الملكية بحدود معينة ومعلومة؛ فإذْ كانت كل الأرض مِلْكا مشاعا بين البشرية جمعاء فإنّ العمل وحده هو ما يعطي للأرض قيمة مضافة تحّول قطعة منها من حيازة مؤقتة إلى ملكية قارة مشروعة ومحدودة بحدود العمل. لا يملك الإنسان إلا ما يمكنه أن يستثمره استثمارا مباشرا، سواء كان هو بنفسه أو بالتعاون مع أسرته،. لذلك اشترط لوك تعميمَ الملكية الخاصة، وليس إلغاءها لتكوين مجتمع من الأحرار والمتساوين بإباحتها من ناحية، وبالحدّ منها من ناحية أخرى. ومن مفارقات فلسفة لوك -في عصر سيطرت فيه إنجلترا على العالم تجاريا وماليا- أن هذا الليبرالي اليوتوبي قد ألغى من نظام الملكية ملكيةَ المال النقدي.

ثالثا: المساواة الطبيعية، يحيل مفهوم المساواة إلى العلاقة والنسبة بين الأشياء أو بين الذوات العاقلة. وتتعين المساواة في الرسالة الثانية على أنها التكافؤ بين البشر من حيث الحقوق الطبيعية التي جاء ذكرها سابقا، ومن حيث واجب طاعة القانون الطبيعي، ومن أهم موضوعات المساواة الطبيعية هي: الناطقية (العقل) والحرية والحق في الحيازة والملكية وحق استخدام الفرد لقواه البدنية والذهنية؛ ولكن -وهَهُنا وجه المفارقة في هذا المفهوم- ليست قوى الأفراد الطبيعية متساوية، كالفرق بين من يولد بصيرا ومن يولد كفيفا. ولما كانت الملكية مرهونة بالعمل وكان العمل مرهونا بقوى الفرد، كانت الملكية متفاوتة. ولذلك يرى لوك أن المساواة بين البشر هي الصفة الطبيعية الوحيدة التي من الجائز أن تزول بإنشاء المجتمعات المدنية القائمة على التنافس، بل وحتى في بعض "التجمعات" الطبيعية. ولقد احتاط لوك من المجتمع التنافسي والقائم على التفاوتات فحَدَّ الملكية بحدود وشروط، من أهمها تلبية الحاجة المعيشية والتحوّز بالعمل وبما يضيفه من قيمة للأصل الطبيعي.

يرى القارئ- على هذا النحو- كيف أن المنعوت بفيلسوف الليبرالية قد عرَّف الإنسان الطبيعي بما هو كائن حرّ ومالك لشخصه ولثمار عمله، وله -أكثر من ذلك- من رجاحة العقل ما يجيز له التمييز بين الخير والشر، بين العدل والظلم حتَّى ليجوز له إقامة الميزان والاقتصاص لنفسه من ظلم الغير، والاقتصاص للغير من الغير: "لضمان مراعاة قانون الطبيعة الذي يرمي إلى السلام والمحافظة على الجنس البشري كله، وُضِع تنفيذ قانون الطبيعة في تلك الحالة في يد كل إنسان؛ بحيث إن كل شخص له حق في معاقبة المعتدين على هذا القانون إلى درجة تحول دون خرقه".

وههنا يستعيد الاستدلالُ مسألةً كانت قد وُضِعت في سياق الحديث عن هوبز: ما الداعي -بحسب نظرية لوك- إلى تأسيس مجتمع تعاقدي بحيث ينضاف ما هو مصطنع إلى ما هو طبيعي، والحال أن الحالة الطبيعية حالة مُثلى من أيّ جهة قلّبتَها وقيّمتَها؟ يجيب لوك على السؤال محاججا بأن مخاطر الاقتصاص الشخصي -وخصوصا في حالات النزاع حول الخيرات والأملاك، وقصور الطبيعة البشرية عن إجراء العدل بميزان واحد منصف- هي ما يحوّل الشعور بالظلم إلى منطلق تنطلق منه رغبة الفرد في الثأر لنفسه من عدوان الغير عليه فيطبّق العدلَ بمقتضى هواه؛ أي بطريقة تحكمية وغير منصفة. فلما كان الجرم يصغر في عين فاعله، ويكبر في عين ضحيته اختل الوزن والميزان بسبب اجتماع الخصم والحكم في شخص من ينفذ الاقتصاص لنفسه بنفسه. يتبع ذلك باللزوم أنه تحاشيا لهذه النزعة الغاشمة التي تردّ على العدوان بالعدوان والمنذرة بالحرب وبانخرام الوضع الطبيعي ينبغي على الإنسان الخروج من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية لوجوب التقاضي لدى قوة عليا ثالثة، هي السلطة المؤسسة التي غايتها صيانة الحق الطبيعي، أو قُلْ: هي الدولة الناشئة في أصلها الأصيل لأجل رفع المظالم عن المظلومين: "إن حب الذات [الحب الشخصي] سيجعل الناس متحيزين لأنفسهم ولأصدقائهم، ومن ناحية أخرى ستحملهم الحدة والانفعال والانتقام على المغالاة في عقاب الآخرين، ولن ينجم عن هذا سوى الفوضى والارتباك. ومن ثم فلابد أن الله فرض حكومة لكبح هذا التحيز والعنف لدى الناس، وإني أسلّم تماما بأن الحكم المدني هو العلاج السليم لما في حالة الطبيعة من مساوئ، وهي مساوئ لا بد بالتأكيد أن تكون كبيرة عندما يكون للناس أن يصيروا قضاة في قضاياهم الخاصة بهم".

على الضدّ من هوبز، فإن الدولة المأمولة التي كان لوك يرسم مبادئها في القرن السابع عشر هي ما يمكن وصفها بدولة "الحد الأدنى"(minima): وهي الدولة الحَكَم في الداخل؛ أي دولة التشريع والتقاضي بين الناس. ويكمن اقتدارُها وقوتُها في سيادة التشريع وتطبيقه. خلا ذلك فهي دولة متضائلة آفلة من حيث الأجهزة التنفيذية التي تحركها. ألسنا قبالة يوتوبيا ليبرالية مبكرة؟ هذا ما عابه الكثيرون على لوك. غير أن ما يهمنا أولا وقبل كل شيء إنما هو تماسك الاستدلال في نظرية لوك التعاقدية:

فعندما يوازي المتأمل جيّدا في نسق لوك السياسي ويوازن بين الحالة الطبيعية والحالة المدنية يستنتج أنّ هناك تواصلا بين الحالتين على الرغم من القطيعة التعاقدية؛ فالحالة الطبيعية كانت بعد مدنية من حيث جملة العناصر التي جاء عليها البحث، والحالة المدنية تستبقي العناصر الطبيعية، وفي مقدمتها القانون الطبيعي، بل وتكمن معقوليتها وكل ما يبرر وجودها ويسوغ مشروعيتها في تكفلها بضمان الحقوق الطبيعية وإجراء القانون الطبيعي بإقامة المؤسسات والقوانين الوضعية على قاعدته الصلبة. هذا التواصل بين الحالتين هو ما يجعل التعاقد عند لوك خاليا من الإكراه ومن المغالاة في الإلزام، أي من العنف المكبوت. وهنا ينبغي توضيح مسألة مهمة، ألا وهي وجود عهود ومواثيق بين الأفراد منذ هُمْ في الحالة الطبيعية. ولكنها عهود جزئية وتدخل في دائرة المبادلات بالخصوص. وأما "الميثاق" المجوّز للانتقال من الطبيعة إلى المدنية والذي تقول به الرسالة الثانية في الحكم المدني فهو ميثاق عام، ويخص دائرة الحق السياسي وتأسيس المجتمع المدني. صحيح أن لوك لا يعترض على فكرة العقد، ولكن العقد الذي يقول به ليس عقدا بالمعنى الدقيق للمصطلح؛ وإنما هو توافق "ناعم"، ويسميه بـ"الرضا"(consent)؛ فخلافا للعقد الذي يشترط إرادة وعزما يكون الرضا استعدادا فطريا. ومختصر القول أن الحالة الطبيعية هي -على نحو من الأنحاء- مجتمع منتظم لا تنقصه سوى المؤسسة المدنية السياسية لتأمين دوامه واستقراره. أيعني ذلك تقاربا في النظرية السياسية بين لوك وأرسطو؟ والجواب الجائز أن لوك هو الأقرب من أرسطو والأبعد عنه في آن؛ فهو الأقرب من جهة الاستعداد المدني في الفرد الطبيعي، وهو الأبعد لقوله بالحرية وبالاستقلالية لا كقيمة سامية أو كمعيار أساس وحسب؛ بل وكمبدأ طبيعي أيضا لا ينفصل البتة عن العقل، قرين الحرية الدائم. وهذه الاستقلالية الفردانية هي التي تجيز للوك القول بأن من لا يقبل راضيا بالدخول في المجتمع المدني حلال عليه أن يبقى خارج الدائرة الاجتماعية من غير أن يفقد حقوقه أو إنسانيته. وهذا مضاد لأرسطو الذي لا يستثني من نظام الجمعية الإنسانية سوى إله متعال وقدير، أو بشر متوحش ومارق عن الناموس الكوني.

نرى كيف أن القوة والقوة المضادة متكافئتان أيضا في الاستدلال اللّوكي: إنّ رخاوة ونعومة الحالة الطبيعية لا يكافئها سوى عقد رخو وناعم في البدء، تتلوه سلطة سياسية جوهرها تشريع القوانين وإجراء القضاء بين المواطنين في الداخل، والحرب والسلم في الخارج.

وكأننا بلوك يحدّ من شطط النزعة التعاقدية الهوبسية، فإنّ الفيلسوف الذي سيستعيدها على نحو صارم ويوجهها وجهة مخالفةً لوجهة هوبز الاستبدادية في الظاهر على الأقل -ولكنها مخالفة أيضا لليبراليّة لوك مهما وافقها في مسائل مثل الفردانية، والديموقراطية المشرِّعة، والشعب كجسم سياسي- فهو جان جاك روسو.