ملف خاص..ذكرى أول رائد فضاء الى سطح القمر..السوفيتي يوري غاغارين

أربعاء, 04/13/2022 - 17:14

يمان الشريف

من مركز مراقبة الرحلة، المنشأة المسؤولة عن إدراة بعثات الفضاء، كان المهندس "سيرجي كوروليف" يقف بارتباك متوشحا سترة ثقيلة تلائم قسوة أجواء الحرب الباردة في لحظات سكون قد خيّمت على قاعدة "بيكونور الفضائية" الواقعة في جنوب كازاخستان.

لم يكن دخان الصاروخ الذي أقلع للتو قد تبدد بعد، وكان الذعر قد تملّك المهندس الروسي الذي بادر بالحديث ليكسر حاجز الصمت المضجر الذي أوهم بفشل المهمة التي كانت على وشك أن تضع الروس في مقدمة سباق الفضاء مع خصمهم العتيد، الولايات المتحدة الأمريكية، وليس هذا فحسب، بل إنّ هذا الصمت لا يعني سوى أمرا واحدا، وهو خسارة أحد رجال النخبة من سلاح الطيران السوفياتي، وهو الطيّار "يوري غاغارين" ذو الـ27 ربيعا.

"لماذا لا يتحدث؟ لماذا لا يتكلم؟" هكذا وجّه "كوروليف" حديثه للمسؤول عن الاتصال مع الطيّار الشاب الذي انقطع التواصل معه للحظات.

يجيبه رجل من الطاقم الطبي بأنّ نبضات "غاغارين" وصلت إلى 158 نبضة في الدقيقة، بينما كانت 66 نبضة لحظة الإقلاع. فيتجه موجه "كوروليف" ويضيق به ذَرعا قبل أن يوجه سؤاله مجددا: هل يعاني من مشكلة في قلبه؟

فيجيبه الطبيب: سيّد "كوروليف"، أنا أدرك جيدا قدرة "غاغارين" على التحمل، ما من أيّ مشكلة في قلبه.

فيتدخل رجل آخر قائلا: ربّما نسي الضغط على أحد المفاتيح، مما تسبب بخلل في الضغط، أو أنّه فقد وعيه بسبب ازدياد قوة الجذب.

ويحدث فقدان الوعي في رحلات الفضاء بعد لحظة الإقلاع عند ازدياد تسارع الصاروخ، بسبب القوة المفرطة الواقعة التي تصرف الدم بعيدا عن الدماغ مسببة بذلك نقص التأكسد الدماغي، ويُطلق على هذه الحالة في فسيولوجيا الطيران "جي لوك" (G-LOC) اختصارا.

ليعود المسؤول متحدثا بجهاز الاتصال مجددا: "كيدر" أنا "زاريا"، هل تسمعني؟ أجبني. هل تسمعني؟

كان "كيدر" هو اللقب الذي اختير لـ"غاغارين" في هذه الرحلة عندما كان في معسكر التدريبات في أثناء فترة تأهيله مع زملائه الطيّارين الآخرين الذين انضموا لبرنامج "فوستوك" الذي كان يهدف إلى وضع أول إنسان في مدار حول الأرض في الفضاء الخارجي.

مجددا ينادي مسؤول الاتصال: "كيدر" أنا "زايا". هل تسمعني؟

ثمّ يطبق الصمت مجددا وسط لحظات من الارتباك، كان كلّ من في مركز المراقبة يرمق الآخر بنظرات ذعر، ثمّ فجأة يأتي صوت مشوّش من مكبرات الصوت التي انتشرت في أنحاء القاعة: "زاريا"، أنا "كيدر". أسمعك جيدا، إنّ كلّ شيء على ما يرام، المرحلة الثانية تسير بشكل جيّد الآن، وأنا بحالة جيدة، هل تسمعني؟

الصاروخ الذي حمل أول إنسان إلى الفضاء سنة 1961

لقد كانت تلك الكلمات بمثابة قبلة الحياة بعد لحظات عصيبة طويلة، بل إنها أشبه بإنعاش لكلّ من التقطت أذنه ذلك الصوت المشوّش. ثم تابع "غاغارين" بكلمات أخرى: إنّي أرى الأرض عبر كوّة المركبة، يمكن تمييز الأرض بوضوح تام، إني أرى أنهارا وتضاريس، الرؤية واضحة للغاية، كلّ شيء على ما يرام.1

لم يكن أمرا ليُصدق لولا أنّهم يعلمون جيدا أنّه صوته، صوت "يوري غاغارين"، أول صوت بشري قادم من الفضاء إلى سكان الأرض، وهل من فخر أعظم من هذا ليحتفي به السوفيات أمام العالم بأجمعه، كبيره وصغيره.

إنها قصة أحد أعظم الإنجازات البشرية على الإطلاق، إنها قصة الطيار الشاب أول رائد فضاء في التاريخ "يوري ألكسييفيتش غاغارين" في ذكرى صعوده.

حلم الانضمام للسلاح الجوي الأحمر.. نشأة في عائلة محاربة

أبصر "يوري غاغارين" النور في 5 مارس/آذار عام 1934 ببلدة "غتاسك" في روسيا، وقد تغير اسمها لاحقا إلى بلدة "غاغارين" في عام 1968 نسبة لرائد الفضاء الذي توفي في ذات العام.

ولد "غاغارين" لأبوين يعملان في إحدى المزارع المشتركة التي تتخذ الصبغة الجماعية المشتركة بين عدة عاملين آخرين، وهو النظام المتبع في ظل الحكم الشيوعي السابق. وحالهم كان كحال ملايين المواطنين السوفيات الذين عانوا مرارة الحرب العالمية الثانية، فقد ودّعت أسرته أخويه الكبيرين اللذين جُنّدا وأرسلا للنزال في ألمانيا، ولم يعودا إلا بعد انقضاء الحرب. بينما بقي "غاغارين" على مقاعد الدراسة في هذه الأثناء، وكان قد ذكر بأنّ أحد مدرسيه قد انضم للسلاح الجوي الأحمر، وهو ما ترك انطباعا لديه مستقبلا ليسلك ذات الطريق.2

يوري غاغارين ‘إلى جانب زوجته "فالنتينا غورياتشيفا" التي تزوجها سنة 1957

تخرج "غاغارين" من مدرسة حرفية تقع في إحدى ضواحي موسكو، معقل الحكومة السوفياتية، ثمّ بدأ التدريب المهني والفني على حدٍ سواء في مدينة ساراتوف في عام 1951، أي قبل عامين من رحيل الزعيم السوفياتي "جوزيف ستالين".

وفي هذه الأثناء انضم إلى أحد أندية الطيران وحصل على فرصة قيادة طائرة خفيفة، مما نمّى بداخله حب التحليق، فقرر الالتحاق بالتدريب العسكري في مدرسة "أورينبورغ للطيارين". وفي تلك الفترة التقى بشريكته المستقبلية "فالنتينا غورياتشيفا"، وتزوجها في عام 1957، وأنجب منها طفلتيهما "يلينا يوريفنا" و"غالينا".

لقد نال بعد تخرجه شارة الطيران حاصلا على رخصته في قيادة الطائرات الحربية "ميج-15″، ثمّ عيّن في قاعدة جوية في منطقة مورمانسك بأقصى شمال روسيا بالقرب من الحدود النرويجية، وتشتهر تلك المنطقة بالطقس السيء الذي جعل مهمته محفوفة بالأخطار والتحديات.

"فوستوك".. حلم غزو الإنسان الأول للفضاء

في ظل احتدام سباق الفضاء في ستينيات القرن الماضي، شرعت حكومة موسكو في العمل على برنامجها الفضائي عالي السرية "فوستوك" لإرسال أول بشري إلى الفضاء. ولم تكن هذه المرّة الأولى التي يقوم بها السوفيات بإرسال مخلوق حي إلى الأعلى، فقد قاموا بإرسال كلاب (الكلبة لايكا) وقرود وفئران وحشرات كذلك، وكانت النتائج مأساوية للغاية فنسبة النجاة تكاد تنعدم.3

نموذج عن كبسولة فوستوك التي حملت أول رائد فضاء معروضة في متحف الفضاء بمدينة موسكو

وبناءً على بحث مكثّف وواسع في أرجاء دول الاتحاد السوفياتي، وقع اختيار "غاغارين" بعناية فائقة ضمن 20 رائد فضاء (محتمل) من الذين قد يعوّل عليهم لأداء هذه المهمة ولنيل الشرف بهذا المقام، هذا إن استطاع النجاة وبقي حيا.

في أثناء فترة التحضير، خضع "غاغارين" وزملاؤه الآخرون لسلسلة من التدريبات الصارمة والمرهقة لاختبار قدرتهم الجسدية والنفسية ومدى تحملهم، فضلا عن التعليم الفني الذي رافقهم طيلة هذه المدة في شرح آلية عمل مراكب الفضاء وكيفية الهبوط وغيرها من الأمور التقنية.

جهاز الطرد المركزي.. تمارين قاسية في طريق الفضاء

من التمرينات القاسية التي ما زالت متبعة حتى اليوم جهاز الطرد المركزي، ويخضع به جسم الطيّار ورائد الفضاء لمستويات عالية من التسارع لتدريبه على تحمل التسارع الزائد عند انطلاق الصاروخ بسرعات عالية. ويحتوي الجهاز على أسطوانة تتسع لراكب يجلس عند الحافة، وتدور الأسطوانة حول محورها بسرعات عالية مما ينتج قوة طرد مركزي تحاكي القوة المؤثرة على جسم رائد الفضاء عند لحظة الإقلاع.

من بين 20 رجلا عاشوا هذه اللحظات العصيبة، استطاع فقط اثنان اجتياز جميع التدريبات بالشكل المطلوب، وهما "يوري غاغارين" وزميله "غيرمان تيتوف"، ليصلا إلى المراحل الأخيرة. ولم يكن أداؤهما فقط هو العامل الحاسم هنا، بل كانت البنية الجسدية كذلك تلعب دورا هاما في عملية الترشيح، إذ كانت قمرة القيادة في المركبة الفضائية "فوستوك1" صغيرة بعض الشيء. وما بقي الآن هو عملية الاختيار بين أحدهما فقط دون الآخر، وهذه المهمة أوكلت للحزب الشيوعي السوفياتي بنفسه بإشراف المهندس المسؤول "سيرجي كوروليف".

مهندس الفضاء الروسي "سيرجي كوروليف" فخور بإنجاز تلميذه يوري غاغارين

وقد قام "كوروليف" بعمل استبيان صغير بين جميع المرشحين للطيران، فيه سؤال واحد: "من ترشح لهذه المهمة؟" فجاءت أكثر من ورقة تحمل اسم "غاغارين".

لقد وقع الاختيار على "غاغارين" في اللحظة الأخيرة، ويُرجع بعض المؤرخين تبرير اختيار الحزب إلى أنّ الهيئة و"الكاريزما" والقدرة على الخطابة والتعامل مع الإعلام كانت العوامل الحاسمة، بالإضافة إلى أن اسم "غاغارين" في التراث الشعبي كان اسما عائليا مرتبطا بالأرستقراطية القيصرية.4

"فوستوك-ك".. خطاب حماسي أمام الصاروخ العملاق

في الثاني عشر أبريل/نيسان 1961، اليوم المقرر الذي سيدخل فيه أحدهم التاريخ من أوسع أبوابه، اتجه الطاقم السوفياتي إلى قاعدة "بيكونور الفضائية" من مركز التدريبات رفقة الشاب المتحمس "غاغارين" ذي الـ27 عاما وهو مرتديا بذلة الفضاء البرتقالية في أجواء غلب عليها طابع الرهبة والخوف من المجهول، إذ لم يكن أحدٌ يعلم إلى أيّ نقطة ستنجح المهمة، أو إن كان ثمة أي ضحايا في نهاية اليوم، على الرغم من الجاهزية الكاملة والتحضير الجيّد.

وقبل الوصول عند القاعدة، برزت من بعيد قمة الصاروخ الفضائي المهيب "فوستوك-ك" (Vostok-K) بارتفاع 30 مترا، وبدأ يكبر شيئا فشيئا أمام عينيه كلما اقترب. لقد كانت لحظات حاسمة ودّع بها "غاغارين" جميع زملائه المتدربين ومدربيه والمشرفين عليه، فبعد دقائق سيكون على متن هذا الجسم الضخم الذي سيصعد به إلى الأعلى ويرحل إلى مكان لم يرحل إليه أحد قبله قط.

"ريتا نورسكانوفا" الفلاحة التي استقبلت يوري غاراين بعيد هبوط كبسولته في حقل البطاطا تقف بجانب النصب الذي أقيم له هناك

ومما يُنسب إليه قبل صعوده إلى المركبة الفضائية أنه وقف أمام الحشد، وقال: يجب أن تدركوا مدى صعوبة التعبير عن شعوري الآن بعد أن وصلنا إلى هذه النقطة وأنهينا جميع التدريبات الشاقة بحماسة وتفانٍ. لا يسعني إخباركم بماذا أحسست حينما علمت بأن الاختيار قد وقع عليّ لإنجاز هذه الرحلة لأكون أول إنسان في التاريخ. هل شعرت بالمتعة أو الفخر؟ لا، لقد شعرت بشيء أكثر من ذلك، لقد شعرت بسعادة بالغة بأن أكون أول من يكسر حاجز الفضاء الخارجي بمفرده في مواجهة مباشرة مع الطبيعة في تحدٍّ غير مسبوق. فتساءلت في نفسي من منّا يحلم بشيء أكثر من هذا؟ ثمّ تراجعت عن ذلك وأدركت حجم المسؤولية الهائلة على عاتقي؛ أن تكون أول من يفعل ما حلمت به الأجيال يعني أن تكون من يمهد الطريق لهم في المستقبل.5

"هيا بنا".. هتاف تغلغل في وجدان الشعب السوفياتي

ثمّ صعد مركبته الفضائية وتهيأ لساعة الصفر، وفي الساعة 9:07 بتوقيت موسكو وفي لحظة الإقلاع مباشرة، هتف "غاغارين" بكلماته الشهيرة "هيّا بنا" (بالروسية: Poyekhali) التي ألهب بها الشعب السوفياتي بأكمله، وباتت جملة مسجلة باسمه حول العالم.

لقد أطلق الصاروخ وفق نظام آلي بالكامل مع إمكانية التدخل اليدوي على نطاق بسيط من قبل "غاغارين" إذا ما تطلب الأمر، أي أنه مُنِع من التحكم الكامل بالمركبة الفضائية، لأنّ بعض العلماء كانوا يخشون أن يفقد عقله ويصاب بالجنون حينما يتعرض لبيئة تنعدم بها الجاذبية، فلا يحسن التصرف.

احتفالات سنوية في روسيا بذكرى صعود غاغارين إلى الفضاء

لم تمر دقائق كثيرة حتى وصل "غاغارين" إلى الفضاء الخارجي، واندفعت مركبته في دورة كاملة حول الأرض مستغرقة مدة زمنية قدرها 108 دقيقة، وفي سرعة قصوى بلغت 28 ألف كيلومتر في الساعة.

وعند عودته إلى الأرض وعلى مسافة 7 كيلومترات من سطح الأرض، قذف "غاغارين" بنفسه من الكبسولة الفضائية ملتصقا بمقعده ومستخدما مظلّة خاصة، ليهبط في أحد الأرياف التابعة لمدينة أوزموري بالقرب من نهر فولغا في روسيا.

وما إن هبط على الأرض حتى تبعه فلّاح وابنته من بعيد قبل أن يتملكهما الخوف حينما اقتربا منه ولاحظا زيّه البرتقالي وخوذته البيضاء الكبيرة، مما تطلب منه بعض الوقت لكي يقنعهما بأنه روسي مثلهما، وأنه بحاجة إلى إجراء مكالمة على وجه السرعة، فقد كان يريد التحدث مع الحكومة السوفياتية، ليطلعهم بكافة التفاصيل.6

"وسام لينين".. ترقية سماوية وجولة للاحتفال حول العالم

حين وصل "يوري غاغارين" استقبله الزعيم السوفياتي السابق "نيكيتا خروتشوف" بحرارة شديدة أمام مئات الآلاف من الحشود المتجمهرة التي كانت تهتف باسمه، وجعل له منزلة بجانبه ناظرا إليه بفخر واعتزاز، ومانحا إياه أعلى أوسمة الاتحاد حينئذ، "وسام لينين". ليس هذا فحسب، فقد جرى على ألسنة الناس أن "غاغارين" حصل على ترقية سماوية بامتياز، إذ أنه صعد إلى الفضاء برتبة ملازم وعاد إلى الأرض برتبة رائد.

وقد ذاع صيته في أرجاء المعمورة وبات اسمه يصدح به في كلّ مذياع، فبعد رحلته التاريخية، قرر الذهاب بجولة حول العالم ليحتفي بإنجازه التاريخي، وكذلك لمآرب سياسية أخرى وهي تعزيز صورة وحُظوة السوفيات، فزار أوروبا ورحل إلى كندا، ووفقا لصحيفة "تلغراف" البريطانية، فإنّ الرئيس الأمريكي "جون كينيدي" أعطى أوامره بعدم السماح لرائد الفضاء بزيارة البلاد بسبب شعبيته المقلقة.7

الزعيم السوفياتي "نيكيتا خروتشوف" يحتفي بيوري غاغارين ويتجول معه بين الجماهير

لم يصعد "غاغارين" مجددا إلى الفضاء، واكتفى بتدريب رواد الفضاء الآخرين في السنوات اللاحقة، حتى تعرض لحادث مأساوي ومريب في يوم 27 آذار/مارس 1968 في أثناء إنجاز إحدى الدورات التدريبية الاعتيادية، وقد أودى الحادث بحياته مباشرة، هو وطيّار آخر كان برفقته.

فتحت هذه الحادثة الصادمة بابا من التساؤلات عن ما إذا كان الأمر مدبّرا له من قبل الزعيم الروسي آنذاك "ليونيد بريجينف" الذي شعر بغيرة شديدة من شهرة وشعبية رائد الفضاء على حد تعبيرهم، أم أنّ الأمر كان محض صدفة وأنه كان قدره فحسب.

رحل "غاغارين" وهو ابن 34 عاما، بعد مضي سبعة سنوات على إنجازه التاريخي، وترك إرثا ضخما تحتفي به البشرية في كل ذكرى لصعود أول إنسان إلى الفضاء، الرجل الذي تخطى حاجز الرهبة والخوف، وفتح نافذة الفضاء على مصراعيها للأجيال القادمة.
الجزيرة الوثائقية