أثناء تفقدي لمنزل والدي ووالدتي رحمهما الله خلال شهر رمضان المبارك وقعت عيني على ثلاثة كتب بمكتبة والدي .. الكتاب الأول ( النباهة والإستحمار ) للمفكر الإيراني الثوري الدكتور علي شريعتي .. والكتاب الثاني للفيلسوف والمفكر الأمريكي Noam Chomsky ( Silent weapons for quite wars ) الذي تحدث فيه عن استراتيجية إلهاء الشعوب والسيطرة على الرأي العام والتحكم في توجهاته وعن رداءة ثقافة المجتمعات المستحمرة .. فوصفها أنها في البداية تعم حتى تصبح عادية ثم مستساغة ثم مطلوبة .. وهذا ما يربط بينه وبين الدكتور علي شريعتي صاحب نظرية النباهة والإستحمار.
والكتاب الثالث للكاتب والروائي السعودي فوزي صادق بعنوان ( الحمار خلف الجدار ) حيث أشار فيه أن الحمار لا يُمثلُ الغباء المُعاكس للنباهة والذكاء ولا يمثل مصطلح لأخطاء البشر لأنه مسكين و مفترى عليه .. فنحن حمير ما دام أننا نسمح لهم بإستغبائنا.
فأول كتاب قرأته وأمعنت فيه كان كتاب الدكتور علي شريعتي ( النباهة والإستحمار ) .. وحقيقة أني فوجئت بهكذا فكر و هكذا طرح فقد أرهقني نسيج وكثافة ومتانة أفكاره فقد كشف ألاعيب محترفي ركوب الحمير بالتعامل مع الشعوب بإعتبارهم حميراً خلقوا للخضوع والخنوع.
فقد أشار في كتابه أن الإستحمار هو طلسمة للذهن وإلهاءه عن الدراية الإنسانية والإجتماعية وإشغاله بحق أو بباطل.
فالجميل في الكتاب أنه يبين الفارق بين النباهة والإستحمار في المجتمع .. ويطرح صور الإستحمار اليومي التي يعيشها الفرد والمجتمع … أولها : دفع الناس إلى الجهالة والغفلة والرضوخ والإستسلام وإلهائهم بالجزئيات لصرف أنظارهم عن الأساسيات .. وكل ذلك من أجل استعبادهم واستحمارهم ليسهل قيادتهم دون أدنى مقاومة أو اعتراض.
فالدكتاتوريين في العالم يعرفون أن الشعب المُستحمر والمُنحل والمسطول بالمخدرات دائماً ما يكون سلس القيادة.
فبات الإستحمار صناعة سياسية وإعلامية تعمل على تزييف ذهن الإنسان ونباهته وحرف مساره .. فعلم الإستحمار والإلهاء والإستهبال له من المنظرين والعلماء والمختصين ووظيفتهم تثبيت الناس في وضعية الإستحمار والجحشنة من خلال بث ونشر الثقافة الإستحمارية بأدوات متاحة لهم.
فالمساحة ما بين الإستهبال والإستحمار والخداع والتمثيل واسعة ورمادية .. فجميع تلك المصطلحات سيان والهدف منها هو إبدال الوعي والإدراك والسير خلف المجهول.
فالأنظمة الدكتاتورية صاحبة القبضة الأمنية دأبت على مر العصور على استحمار شعوبها وتضليل عقولها ونهب ثرواتها وتجهيل شعوبها .. فالإستحمار والتضليل والإلهاء له مقاسات مختلفة وله مؤسسات تُهندسه وتخرجه في أبهى صوره.
وله من الصور والإشارات الكثير كإغراق الناس بمشاكلهم الحياتية اليومية .. واعتقال غير القابلين للإستحمار والرافضين لأكل التبن والبرسيم.
أما الأكثر خطورة في تلك الصور هي خلق حكومات ضعيفة بلا مضمون لا تمتلك الولاية العامة .. و مجالس نواب يأتون بالتزوير و على المقاس و لا يحظوا بثقة الشعب .. و عندما يتم أيضاً إسناد دور البطولة للأقزام و الهواة و أبناء الذوات و المحاسيب و الأصهار و أشباه الرجال.
فالمفكر الأمريكي Chomsky قال عندما تقع الحكومات في أزمة داخلية ويصعب حلها فإنها تلجأ إلى عملية الإدارة بالأزمة لتوجيه الرأي العام الداخلي عبر النفخ بها من خلال وسائل الإعلام .. ومن ثم إغراق البلاد في إشكاليات و إغراقهم في دواماتها.
فسياسة الإلهاء كما عبر عنها Chomsky تقوم على صناعة الأفكار التي تُلهي أكثر ما توقظ .. وتسلب أكثر ما تفيد .. وتُغيب الشعوب تماماً عن الوعي بنشر الإستحمار المباشر وغير المباشر.
فقد ركز Chomsky في كتابه Silent weapons for Quiet Wars أن الفعل السياسي في الدول الدكتاتورية غير الديموقراطية لم يعد اليوم مرتبطاً أساساً بالفعل والحقيقة بل بالرأي العام الذي يقوم على الكذب والإستهبال وتحريف الوقائع وتزييف المعلومات.
وأن انتشار الكذب في دولة ما قد يدمر كيانها ويضعف من استقرارها وأمنها الداخلي .. فالكذب يحمل معاني التضليل والخداع وخفاء الأسرار.
فرغم أن الكثير من التابوهات كُسرت إلا أن هناك من يتفنن في إخراج مشاهد وقصص لا يمكن بأي حال من الأحوال تصديقها أو التعامل معها كونها استهبالاً خارج إطار المعقول وخارج دائرة المقبول وتُذكرنا بقصة أبو شاكوش في تسعينات القرن الماضي ( كالطائر الضخم ونظرية الضبع والحظر الذكي وتعيين متصرف لكل مستشفى ونشف ومات … وأننا دولة لا نمتلك دبابات ولا صواريخ .. والكعكة الصفراء وحق الإختراع .. والمليارات قادمة على البلاد …الخ.
كلها مواقف مُحزنة تحولت إلى مواقف ساخرة ومُضحكة كالكوميديا السوداء في الإعلام الأمريكي.
فمن يستعرضها يشعرُ أنه دخل مستشفى للأمراض العقلية وما عليه إلا أن يقف بالطابور حتى يأخذ نصيبه من العلاج .. فغيبوبة العقل والوعي تقود إلى مجاهل الحيرة وربما إلى شفير الهاوية.
فمصيبة كبرى عندما يعجز الوزير أو المسؤول عن الرد يذهب إلى تبرير الخطأ بالكذب والإستخفاف بعقول من يسأل.
فالفرق بين الغباء والعبقرية هو أن العبقرية لا حدود لها .. وأن الغباء لا سقف له.
فواقعنا العربي وللأسف يعيش حالياً حالة مستعصية من الإستحمار الفكري والسياسي والإعلامي وأن إنسانية الإنسان لا تحترم ويتم استغفالها واستحمارها.
فالسؤال لماذا تغيب النُخب المُثقفة عن كل ما يحصل ؟ وأين دورها في صناعة الوعي ؟ وهل غيابها عفوي أم قسري .. أم أنه مع سبق إصرار ؟ فحينها لن ندرك حجم ما نحن به الآن إلا عندما نستيقظ على أزمة مُمنعة في التعقيد.