سأهنئ كل الشباب المتخرجين من كلية الطب وغيرها من مؤسسات تعليم "الأكصلانص"، وهو نجاح يتوج سنوات من التضحية والمثابرة وأهنئ كذلك الأمهات والآباء بتلك المناسبة.
وبنفس القوة والنّفَس، سأحمل المسؤولية لأولئك الذين أوصلوا منظومتنا التربية إلى مستويات التردي المفزعة، فلقد تجاهلوا وعن "عمد" واجب خلق سياسة تربوية عادلة وشاملة، تتقصى كل طفل موريتاني؛ فكانت محصلة ذلك "النهج" تلك الصور التي لا تمثل أبدا المجتمع الموريتاني المتنوع وتكشف بمرارة إكراهات وويلات المجتمع المطبوع بالتراتبية وقرب العهد بالبداوة.
لقد كان من واجب الدولة ابتداء الوقوف عند خطوط حمراء كتجريم العبودية وعمالة الأطفال و تفعيل إلزامية التمدرس والتكفل بكل طفل عاجز عن اقتناء مقومات التحصيل ثم التوعية الأهلية بضرورة الإقبال على التعليم وتشجيع الأسر الهشة والأهم الأهم تكريس المساواة الحقيقية بعيدا عن الشعارات الجوفاء... إن تجاهل هذا المعطى هو الموصل لظهور تلك الصورة التي شاهدناها في حفل تخرج كلية الطب وغيرها من مؤسسات التعليم "المحظوظ أو المتمايز" والتي لن يستطيع أي عاقل منصف ولا جاهل مكابر أن يتركها تغيب عن نظره حتى يطرح ألف سؤال بشأنها..
لن يجادل مجادل في أن معايير العلم والكفاءة وروح البناء هي قيّم كامنة متى ما حركناها برزت ونمت ويستوي في ذلك كل الناس...
فإلى متى يستمر تعميق الهوة بين مكونات المجتمع المتفاوت أصلا في الثروة والتمكين على مرأى ومسمع وتغاض من الجهات المسؤولة؟
ولا شك أن المسؤولين عن هذا الوضع والغاضين طرفهم عنه، آثمون أخلاقيا وقانونيا، بل إن مسؤوليتهم أخطر ممن هم متابعون بتهم تدمير الاقتصاد ونهب المال العام والموارد... لأنهم وببساطة ينسفون أسس التعايش والنهضة وممهدات العدل ويسعون عبر الحقب إلى تمزيق عرى المجتمع وهم وللأسف "ينجحون في ذلك..."..
ليست المشكلة فقط في غياب أي رؤية لإيجاد مدرسة جمهورية يُظِل الجميع سقفها ويتعلمون فيها جنبا إلى جنب أنهم مواطنون متساوون، يوحدهم الانتماء للوطن والحرص على مستقبله، بل إن المشكلة أكثر عمقا وأخطر أثرا، فقد أصبح التمكين الاقتصادي "المصطنع" من قبل الدولة لصالح ثلة قليلة، أداة لإقصاء الفئات المهمشة من التعليم السبيل الوحيد للرقي المجتمعي.
لن يستنكر منصفٌ، على ضحايا هذا الوضع استعجال زواله ومعه حالة التهميش "المستدامة" والتي هي نتيجة حتمية لسياسة اللامبالاة من الدولة وتمكينها لكل البنيات المعادية لمفهوم المساواة بالإضافة إلى فشل النخب في تكريس مفهوم "الوطن الجامع العادل" الذي يتعهد صغارَهَ ويسند ضِعافه - بل وأكثر من ذلك - فقد انخرطت تلك النخب في تحالف "مقدس" مع الأطر القبليّة والإقطاعية، كانت نتائجه كارثية على جميع المستويات، فليست مظاهر التخلف والبؤس البادية والمنتشرة في كل شبر من الوطن إلا دليلا ساطعا على الفشل "الوطني" الكبير الذي يبدو أننا لم نهتدِ حتى اليوم إلى سبيل للخروج من هوتِه السحيقة والتي جعلت دور الدولة عندنا يتحول – وبشكل غريب - من واجب إزالة حالة اللا مساواة إلى رعايتها وتعزيزها والتمكين لها في مختلف مفاصل الدولة وفي كل السياسات العمومية..
وستبقى الصور أحادية اللون، مظهرا من مظاهر التفاوت بين أبناء ذوي الحظوة في المال والسلطة وبين أبناء المناطق المحرومة الهشة المكتوفين بقيود الجهل والفقر والإقصاء وهي نتيجة مباشرة لفشل كل من قاموا على إدارة الشأن العام مهما اختلفت مسمياتهم ومنطلقاتهم وعلى مر الحقب، وستستمر طويلا ما استمر انحسار مفهوم الدولة والشعور بالمسؤولية وغياب روح العدل والإنصاف لدى القائمين على الشأن العام مع ما ينجر عنه من مخاطر غير خافية على السلم الاجتماعي – وخاصة - مع تراجع الخطوات الباعثة على الأمل في الأفق القريب و تخبط السياسات العامة البادي للعيان..
إن دواء هذا الجرح الغائر يتطلب الخروج من الدائرة المفرغة عبر رد الاعتبار للمدرسة العمومية وحذف ما سواها، لا نريد شعارا سياسيا ارتجاليا ولو تَسَمّى باسم المدرسة الجمهورية بل خطوات حقيقية لتكريس المساواة والعدل والإنصاف والتمكين للمقصيين والمهمشين والمغبونين، نريد موريتانيا الحالمة بتغيير محمود في البُنى والديمقراطية والتنمية ورسالتي الأهم والمستعجلة أن حالة التراكم السلبي هذه لا يمكن أن تستمر للأبد.