صدفة غريبة جعلت معبر «الكركرات» بأقصى جنوب الصحراء الغربية تقع في بداية المرحلة الانتقالية بين إدارتين أمريكيتين. واحدة انتهت ولايتها عملت على غسل يديها من كل نزاعات العالم وأزماته إلا من حيث تزويد الأطراف المتنازعة بالأسلحة والذخيرة، وأخرى تقليدية «عَولمية» تَحنُّ إلى الأيام التي كانت فيها أمريكا طرفا في كل واقعة أو أزمة على وجه الكرة الأرضية.
على الأغلب أن الحادثة عابرة ومعزولة أملتها ظروف محلية تتعلق بواقع المعبر وليس بنزاع الصحراء الغربية. ولهذا من المستبعد أن تؤثر على حالة اللاحرب واللاسلم المستمرة منذ ثلاثة عقود بين المغرب الذي يسيطر على الصحراء الغربية وجبهة البوليساريو المطالبة باستقلالها.
الوضع الحالي يريح الجميع.. طرفا النزاع، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، الأمم المتحدة التي لم يعد يهمّها في الموضوع إلا تجديد ولاية بعثتها هناك (مينورسو) كل ستة أشهر، والقوى الناهضة التي تبحث عن أدوار في النزاعات الإقليمية الجديدة.
سبب التجاهل الدولي والإقليمي للنزاع يكمن في كون ما يجري (بالأحرى ما لا يجري!) لا يشكل أيَّ خطر على الاستقرار الإقليمي والدولي، ولا يؤثر سلبا على الواقع الجيوسياسي الموجود، ولا يعيق انسيابية الحركة التجارية والاقتصادية في المنطقة ومن حولها.
ردود الفعل الإقليمية الداعمة للرباط في إحكام قبضتها على «الكركرات» تبدو مسألة علاقات عامة أكثر منها شيء آخر. وإعلان أحد قادة البوليساريو أن «الجبهة» في حلّ من اتفاق وقف إطلاق النار مع المغرب يبدو تهديدا موجها للخارج، ومن المستبعد أن تكون له تبعات مؤثرة على الأرض. أما المتابعة الإعلامية العالمية للحادثة فكانت ثانوية وعابرة وسرعان ما ستغمرها أحداث أخر أكبر وأهم.
وبما أن حادثة «الكركرات» لن تغيّر في واقع النزاع، فمن المستبعد أن تلفت انتباه الإدارة الأمريكية الجديدة المشغولة بأكثر من مشكلة على أكثر من جبهة.
كان المغرب العربي مصدر إزعاج وقلق للإدارة الأمريكية عندما كان العقيد معمر القذافي «ثائرا دوليا» محرّضا شعوب وحكومات العالم الثالث على التمرد على النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة وأتباعها من قادة ودول.
أما اليوم، وبغض النظر عمَّن يحكم في البيت الأبيض، منطقة المغرب العربي هامشية لا تفرض نفسها على أجندات الرؤساء ووزراء الخارجية الأمريكيين. منذ رحيل القذافي، وقبل ذلك استسلامه للإملاءات الغربية والأمريكية قبل نحو 18 سنة، أصبحت المنطقة مجرد ثقب منسيٌّ في تفكير الحاكم الأمريكي، تُذكر هامشيا فقط عندما يتعلق الأمر بالإرهاب والتوتر الأمني والسياسي في منطقة الساحل الإفريقي.
من العوامل التي تجعل المنطقة خارج دائرة ضوء البيت الأبيض، أنها بعيدة عن مصادر الخطر والقلق بالمفهوم الأمريكي.. بعيدة عن إسرائيل، غير معنية بالتوتر مع إيران، محايدة في أغلب الأزمات الدولية والإقليمية.
وعندما تفرض المنطقة نفسها على الأجندة الأمريكية، لسبب ما، تتوقف عند وزير الخارجية أو مستشار الأمن القومي على أقصى تقدير، مع حضور رأي عسكري، ولن تصل إلى مكتب الرئيس.
مستقبل المنطقة في وحدتها وتحركها ككتلة، وهذا ليس من شعارات النفاق السياسي، بل حقيقة من دونها ستفلس المنطقة وتغرق في مزيد من الفشل والتخلف والترقيع
عندما يفرد كبار القادة الأمريكيين خارطة المغرب العربي، يرون التالي: ليبيا حالة خاصة انتزعتها في غفلة منهم روسيا وتركيا وبدرجة أقل أوروبا ومصر. الجزائر يرونها مجرد حارس أمني يتعاون استخباراتيا وميدانيا في الحرب على الجماعات الجهادية الإرهابية، ويؤخر تقدم النازحين واللاجئين الأفارقة شمالا. تونس يريدون لها دورا مكمِّلا للدور الجزائري مع مراعاة تجربتها السياسية الناشئة والواعدة، وكذلك محدودية قدراتها ومواردها اللوجستية والعسكرية. المغرب لا يعزلونه عن المقاربة الأمنية التي أصبحت العنوان الأول والثابت الوحيد في علاقات أمريكا بالآخرين. لكن المغرب، من وجهة نظر أمريكية، هو أيضا الأكثر استقرارا والأفضل تأهيلا للعب أدوار مفيدة إقليميا في موضوعات شائكة مثل الانفتاح على إسرائيل. موريتانيا حارس ثانوي مسالم يتأثر ولا يؤثر.
الواقع السياسي المغاربي اليوم، ورغم التوتر المزمن بين الجزائر والمغرب، ومخاطر الإرهاب محليا وفي الساحل، لا يقلق الإدارة الأمريكية. تدرك واشنطن أن القاسم المشترك بين الدول المغاربية أن قادتها والمنظومات السياسية الحاكمة فيها تقليدية مسالمة حيال واشنطن. لا تحمل بوادر التمرد الروسي أو الفنزويلي أو الإيراني. ولا تتوفر فيها إغراءات (ثروات) السعودية والإمارات وقطر مثلا.
واشنطن، التي يعنيها بالدرجة الأولى التعاون الأمني والاستخباراتي الضروري لمطاردة الجماعات الجهادية، تدرك أن التوتر بين الدول المغاربية، عابرا كان أم مستمرا، لا يؤثر على تعاونها الأمني وتنسيقه مع أمريكا. وهي تعمل على أن يسمو هذا التعاون فوق كل الخلافات المحلية. وقد نجحت في فرض واقع يتمثل في أن كل شيء قد يتعطل بين دولتين مثل الجزائر والمغرب، إلا التعاون الأمني، لأنه يعني واشنطن والحكومات الغربية بالدرجة الأولى، ولن تصمت على الإخلال به.
وطالما استمر هذا التعاون دون تقصير من الحكومات المغاربية، كلٌّ وفق الدور المطلوب منها، فلن تقلق وشنطن من فتور العلاقات حتى لو كان بين أكبر دولتين مغاربيتين، وليس واردا أن ينتابها خوف على المنطقة.
بقيَ أن هذا الواقع يخدم الآخر ولا يخدم إطلاقا المنطقة وشعوبها. أصبح أكثر من ملحّ على قادة دول المنطقة أن يتعلموا من تجارب القادة العرب وغير العرب الذين أفرطوا في التعويل على ترامب ووضعوا كل بيضهم في سلّته فتركهم أيتاما وما أكثرهم.
مستقبل المنطقة في وحدتها وتحركها ككتلة. وهذا ليس من شعارات النفاق السياسي، بل حقيقة من دونها ستفلس المنطقة وتغرق في مزيد من الفشل والتخلف والترقيع. مسألة وقت فقط لا غير.
كاتب صحافي جزائري