تُستثمَرُ اللغةُ في الإنثروبولوجيا واللسانيّات الاجتماعيّة، ... - وثيقةً لدراسة المجتمعات وأفرادها: سلوكًا وظواهرَ وقيَمًا ومعتقداتٍ ... وهي تُبايِن مؤسّسات المجتمع السياسيّة والاجتماعيّة وغيرها من حيث إنّ كلّ فرد – حسب رأي فرديناند دي سوسير (Ferdinand de Saussure) هو عضو فيها، بالقوّة أو الفعل.
تَرُوم هذه الورقة تقديم مقاربة لظاهرة اختصاص اللغة العربيّة القيمَ والأنشطة الاجتماعيّة السلبيّة- والسلوك المنحرف المرتبط بها - بصيغ اشتقاقيّة كثيرة خَلَتْ منها القيمُ والأنشطة الإيجابيّة التي تقابلها.
فاللغة، مثلا، لم تَكَدْ تمنحُ المتّصف (بالوفاء) - ضمن جذر (و ف ي ) - إلا بضع صفات، أبرزها: وفيٌّ. أمّا غير (الوفيّ) فقائمة الأبنية التي تصفه طويلة، فهو: غَادر، وغَدَّارٌ، وغدور، وغِدِّير، وغُدَرٌ، وينادى بـ(يا مَغْدَرُ)، و(يا ابنَ مَغْدِر) ،...
وفي انسجام مع ذلك نجد المتحلّي (بالصدق) يُنعت ببضعة نعوت فقط، أهمُّها: الصادِق، والصَّدُوق... ويُحاط مُتَعاطِي (الكَذِبِ) بــــــ15 وصفا اشتِقاقيّا: كاذِب، كَذَّاب، كَذُوب، كُذَبَة، تِكِذَّاب، كَذُوبَة، كَذْبان، كُذُبْذُب، مَكْذَبان، …
والأمر نفسه ينطبق على (الخديعة) مقابل (النصح)، وعلى (الخيانة) في مقابل (الأمانة) ... وهكذا.
والسؤال الجوهريّ هو: لماذا خصّصت اللغة– ضمن الجذر الواحد- أبنيةً (للغدر، والكذب، والخديعة، والخيانة ...) أكثر بكثير من تلك التي خصّصتها (للوفاء، والصدق، والأمانة، والنصح ...)؟
هل لذلك علاقة بالظواهر الاجتماعيّة السلبيّة في المجتمع مقارنةً بغيرها، فيكون هناك تناسب بين تفشّي السلوك/ النشاط السلبيّ وكثرة الأبنية الدالة عليه؟ أم أنّ ضخّ تلك الأبنية، في اللغة إنما سُعِيَ، مِن ورائه، إلى ترسيخ القيم الإيجابيّة والممارسات القويمة عبر التنفير ممّا يناقضها؟ أم للقضية أبعاد تتّصل بالبناء اللغوي في صلته– من عدمها– بالسياق الاستعمالي/ التداولي، وبالتعالُق بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن استحضارا لمصدر النص وسلطة الخطاب؟ وبين مستوى الوعي واللّاوعي الجمعيّ؟
تمرّ المقاربةُ المقترحة عبر ملاحظة مجموعة من الأسئلة أثير جلّها في البيئتين اللسانيّة والفكريّة، من بينها:
• أتَصِفُ اللغةُ الواقعَ وتعكسه؟ أم تخلُق واقعا جديدا وتولِّده؟
• كيف نتعامل مع اللغة؟ هل نعدُّها شفّافة ومحايدة؟ أم مخادِعة ومضلّلة؟
• أين نلمح التقاطع – بواسطة الأبنية اللغوية - بين اللغة خصيصةً نفسيّةً من خصائص الفرد واللغة مؤسّسةً من مؤسّسات المجتمع؟
يجد بعض تلك الأسئلة مسوِّغ إثارته في أن كلّ مجتمع يعمد إلى مَقْوَلَة (categorization) الوجود وفقا للغته؛ فلا يرى العالَم إلا من خلالها كما يرى سابير (Sapir). وفي الجنس (التذكير والتأنيث)، والعدد (الإفراد والجمع)، وبعض الفضاآت والحقول الدلاليّة (الألوان مثلا) ما يكفي للتدليل على ذلك.
أَعَدَّ الباحث سلّما قيميّا وسلوكيّا رصد فيه أهمّ الأنماط المدروسة، ومدى تواتر الصيغ الاشتقاقيّة المعبّرة عنها، جاعلا من معاجم اللغة العربيّة التراثيّة مدوّنة ومصدرا للدراسة، وقدّم عدّة تفسيرات للظاهرة؛ إيمانا منه بأنّ الظواهر الاجتماعيّة من التعقيد بحيث يعسر تفسيرها بالاعتماد على سبب واحد.