الكرسي الدوار والاصلع الغدار
مسح راسه بباطن يده، كانه يمسح همومه المعشعشة في تلافيف دماغه، او يكشط عفونة ماضيه المستوطنة في ذاكرته. رنة هاتف حفيده القادمة من وراء البحار مباركاً، ذكّرته بعيد ميلاده.لقد بلغ من العمر ارذله.انتابته حالة ضيق،فبدل تناول حبة شوكلاتة من النوع الفاخر المدمن عليها. تناول حبة مضادٍ للكآبة.ازدردها ليتخلص من سوادويته،عملاً بنصيحة طبيبه النفسي،للتخفيف من ضغوط ماضيه الاسود، ويتناسى تاريخه المشين.ضاقت احلامه حتى صارت بحجم كفن ابيض،فقد افتقد بياض الطهارة منذ زمن طويل.ايقن ان الايام خطفته من ذاته.استرجع مظالمه للناس للارتقاء على اكتافهم للوصول الى قمة السلم الوظيفي.تمتم ” انا لله وانا اليه راجعون “،وسأل ذاته ماذا ينفع الندم ؟!. ضميره ينخزه في اليقظة وكوابيس تطارده في نومه.هي جهنم دنيوية يتقلب فيها فكيف الآخرة.تمنى لو يفتدي نفسه بامواله المنهوبة،عقاراته المسروقة،لكن ذلك غير جائزٍ،فهو كمن يتوضأ بماء نجس.
ذهب بريق الذهب،والكرسي دوار له اربع عجلات،دائم الحركة،لا يثبت على حال.ما يؤلمه اكثر،عيون الشامتين تجرده من لباسه،فيما الاصدقاء اداروا ظهورهم،لم يعد لهم مصلحة به. الكرسي مثل شباط ” شمسه خادعة” وليس له حزام امان،تماماً كضاغطات الامانة، تلفظ حمولتها كلما امتلأت، ثم تستبدلها باخرى. غدار كصديق سوء وجامح كحصان بري لا يستقرعلى ظهره احدُ.
عصف بذهنه، شريط اسود تزامن مع صوت داخلي ينقر طبلة اذنه ـ: انت تلعب في الوقت الضائع !. نظر الى صورته ايام شبابه المعلقة في الصالة وقارنها بشكله المطبوع بالمرآة المقابلة. إعترف، انه جثة يسعى الى قبره على قدميه… جنازة مؤجلة تنتظر اشارة من عزرائيل .عادت اليه نوبة كآبة اخرى، مرفوقة بخوف شديد وتعرق في جسده مع رغبة في البكاء،امسكت بخناقه ككماشة فولاذية. اين المفر؟! وكيف النجاة ؟!. يداه ملوثتان،ضميره مثقل بالخطايا يعصره كـ ” الحية العاصرة ” و نوع من الثعابين الخطرة تلتف على الضحية وتقتلها بالالتفاف عليها وخنقها بالعصر.
تحسس مسدسه الذي لا يفارقه حتى في غرفة نومه. فجأة سمع الجيران صوت دوي في البيت الهاديء،وارتطام جسد بالارض. انهمرت مكالماتهم لسؤال الزوجة عن سر الطلقات، لا رد من احد و كأن الهاتف مصاب بصمم.جاء الجواب بعد دقائق، من سيارات الاسعاف التي حضرت الى المكان. من خلف النوافذ شاهد المتطفلون الممرضين يحملون جثة الرجل المهم ملفوفاً ببطانية سوداء.في اليوم التالي اعلن الناطق الرسمي في بيان مقتضب:ـ توفي المذكور اثناء تنظيفه سلاحه الشخصي.
الوطن / الشجرة
وقف يرقب الشجرة في حديقته من طرف النافذة.يا الله، لقد ذبلت.لم تعد قادرة على حمل نفسها، حتى انها بالكاد تحمل اوراقها المصفرة . هبة ريح كفيلة بالاطاحة بها،رغم انها مسورة بجدران مسلحة لحمايتها . لكن العارفين ببواطن الامور يعرفون، لا الاسوار ولا الاسلاك الشائكة تنفعها ان لم تحمِ نفسها…لقد تآكلت.
بعد ايام سقطت وحدها. كانت صدمته مضاعفة عليها. كم تمنى ان يموت قبلها.ذكريات كثيره له معها.سقوطها جاء اسرع من توقعاته.احتار في الاجابة عن سر السقوط.استعان باهل الخبرة.عزا العالمون بعلم الزراعة بعامة و الاشجار بخاصة، ان سقوط الشجرة يعود الى ديدان الارض. لم يقتنع بالاجابة.فجذورها سليمة،وتربتها طيبة. فالديدان لا تقوى على مثل هذه الفعلة.
سأل ذوي البصيرة،و اهل المعرفة ممن كشف الله عنهم الغطاء والهمهم صواب الرأي بعيداً عن التخمينات والتنظير ” فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد”. جاء الجواب بالاتفاق حاسماً وقاطعاً.انها الحشرة اللعينة “حفارة الخشب”،تاكل الساق من الداخل كالخلايا السرطانية،بسرية دون العبث بالقشرة الخارجية، حتى لا يُفتضح امرها، وتنتهي من مهمتها،بقتل الشجرة داخلياً .هي النخبة الفاسدة كذلك،تأكل الوطن / الشجرة ـ و تتحلى بثمارها،ولا تتركتها الا حطباً للتدفئة لاشعالها في مواقدها للتلذذ بفرقعة حبات الكستناء على نيرانها في ليالي الشتاء.
كاتب اردني