يحتل موضوع “الحكامة الجيدة” مكانة سامية على جميع َالأصعدة، إقتصاديا وسياسيا وإجتماعيا وثقافيا إلخ، حيث يحظى بأولوية بارزة في مذكرات وتقارير أصحاب القرار، من رجال الأعمال والسياسة والإعلام والمفكرين والفاعلين الإجتماعيين، إذ ليس على المستوى الدولي فحسب، وإنما على المستوى الوطني والمحلي كذلك، الشئ الذي مكن هذا الفكر لأن يفرض نفسه كأسلوب شمولي وعالمي، بحيث جعل الكل يقتدي به في تدبير الشأن العام والمجتمع المدني، وكذى تدبير الشؤون الخاصة في إطار تسيير المقاولات والشركات التجارية الكبرى، وذلك على الرغم من نشأت هذا المفهوم وظهوره الحديث مبدئيا.
كل ذلك يطرح التساءل وبقوة حول ماهية هذا المفهوم، أي الحكامة، وكذى ما سياق ظهوره وتطوره، للبحث عن المغزى من إعتماده بهذا الشكل سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا.
أولا: تعريف الحكامة الجيدة أو الرشيدة
إن المتخصصين في مجال التدقيق اللغوي يؤكدون على أن مصطلح الحكامة بالمفهوم الدقيق، لم يذكر في مختلف معاجم اللغة العربية، وكذى لم يذكر في مختلف مصادرها الكثيرة، كالقرآن الكريم أو السيرة النبوية، لكن ذلك لا يعني أنه لا يوجد في اللغة العربية ما يقاربه في الدلالة والمعنى.
والمتأمل لمصطلح الحكامة يلاحظ بأنه دخيل على اللغة العربية، والسبب في ذلك أن كلمة الحكامة هي حديثة التداول، الأصل فيها أنهاجاءت ترجمة للكلمة الفرنسية “bonne gouvernance” التي تمت صياغتها من أصل كلمة “gouvernance“، في حين هاته الأخيرة يوجد مقابل لها عند العرب وهي الحكم، أو ما أصبح معبر عنه في القاموس السياسي العربي بالحكومة “gouvernement“، مما يجعلنا نستنتج أن مصطلح الحكامة جاء مشتقا من كلمة الحكم أو الحكومة، الذي يسير في إتجاه إعطاء جهاز الحكم أوصاف تؤكد على معاني الفعالية، وتحسين آداء الفعل الحكومي، قصد الوصول لغاية الإنتاج الناجح والمثمر على أرض الواقع على جميع المستويات، وذلك من خلال إشراك الكل في الفعل السياسي، وهذا ما تشير إلية كلمة “bonne” أو “good” كما يقابلها بالإنجليزية.
وعليه، يمكن القول أن الحكامة كمفهوم حديث وظف في اللغة العربية، من خلال إشتقاقها من الفعل الماض حكم الذي يعني ضبط وقرر، في حين مضارعه هو يحكم، بمعنى يمارس فعل الضبط والتقرير والتدبير، أما مصدرها فهو حكمة، هاته الأخيرة التي تجد مدلولها في التعقل والتبصر وحسن التدبير والتصرف برؤية وروية في الحكم وإنتاج القرار، ومنه ما جاء في قول الله تعالى، بعد باسم الله الرحمان الرحيم: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم باللتي هي أحسن“ صدق الله العظيم، ومن أسماء الله الحسنى الحكم والحاكم والحكيم، هذا بالإضافة لغزارة توضيف هاته الكلمات في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومختلف المراجع اللغوية القديمة قدم اللغة العربية.
وبالرجوع إلى أصل هاته التسمية غربيا، فيعرفه برنامج الأمم المتحدة للتنمية الصادر سنة 1997، بأنه ممارسة السلطة الإقتصادية والسياسية والإدارية، من أجل تسيير شؤون البلاد على كل المستويات، وبالضبط في إتجاه يسمح للمواطنين والمجموعات بالتعبير عن مصالحهم، وممارسة حقوقهم القانونية، ويؤدون إلتزاماتهم من أجل تسوية نزاعاتهم.
وفي هذا الإطار أعلن البنك الدولي أربعة شروط لإقامة حكامة جيدة، وهي:
أ– بناء دولة الحق والقانون، التي ستضمن أمن المواطن واحترام القانون، وذلك يتجسد من خلال إحترام إستقلال القضاء.
ب– إدارة رشيدة تلتزم تدبيرا حقيقيا وعادلا، والذي ربط ذلك بأنه لن يتأتى إلا من خلال تفعيل أسلوب اللاتركيز الإداري، سواء الجهوية الموسعة، أوالدولة الفدرالية.
ت– ربط المسؤولية بالمحاسبة.
ج– الشفافية والديموقراطية.
ولعل هاته المبادئ الكبرى، هي التي تؤسس الأرضية الصلبة التي يقوم عليها هذا الأسلوب الحديث في التدبير وترشيد فعل الحكم والعملية السياسية.
ثانيا: ظهور مفهوم الحكامة وتطوره
إن اللافت في أغلب الدراسات والأبحاث التأصيلية التي أجريت لمفهوم الحكامة، يستشف أنه مولود جديد لم يخرج من الظلمة إلى النور، إلا في العشر الأواخر من القرن الماضي، وبالضبط بين سنتي 1990 و 1999، غير أن مدلول الحكامة في حد ذاته ليس بالجديد في الحقيقة، بل الجديد هو إستعماله على نطاق واسع، ولذلك ليس بالبديهي ملاحظة هذا الإنتشار والتمطط في مستوى التفسير والتأويل والدلالة اللغوية والإصطلاح في تعريفه لاحقا.
فقد دخل مصطلح الحكامة الرشيدة أو الجيدة بقوة في أدبيات القاموس السياسي، وأصبح متداولا على ألسنة أصحاب القرار، وتجلى ذلك أكثر على الصعيد الدولي، حيث يلاحظ أنه غالبا ما كان يستخدمه المفاوضون عن المجتمع المدني، في مجموعة من التقارير والأجندات الصادرة بإسم مجموعة من المنظمات الحكومية، كمنظمة الأمم المتحدة، ومجموعة من المنظمات التابعة لها، كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، ثم إنتقل تداوله بعد ذلك إلى الصعيد الجهوي كالإتحاد الأوربي، إلى أن بدأ الأخذ بهذا المفهوم يتقوى من لدن مجموعة من الدول كإنجلترا، ألمانيا وفرنسا.
وفي هذا الصدد لم يكتفي منظروا البنك الدولي من الدعوة إلى إعتماد الحكامة الجيدة كنموذج للتنمية، وأسلوب لتدبير الشأن العام، وتحديد العلاقات بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، بل روجوا لهذا المعطى باعتباره مفتاح للتنمية، ومعيارا جديدا يمكن من تخطي إخفاقات أساليب التنمية المطبق خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، التي لم تبين إلا عن فشلها في مجموعة من دول العالم الثالث، وذلك خلال برامج التقويم الهيكلي التي طبقت خلال فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين.
لتسليط الضوء أكثر حول موضوع الحكامة الجيدة أو الرشيدة، سوف نحاول مقاربته من خلال مجموعة من الزوايا، مثلا المعايير المعتمدة لتقييم الحكامة الجيدة في دول شمال إفريقيا خاصة، وكذلك تجليات الحكامة دوليا، ووطنيا وجهويا، وأيضا الحكامة على مستوى المجتمع المدني، وفي هذا الإطار ندعوكم للمساهمة معنا من موقعكم في إبراز مختلف النقط الأساسية، التي ستضعنا أمام صورة الحكامة الجيدة أو الرشيدة بشكل واسع.