
صبيحة 20يوليو 1991 أعلنت السلطات العسكرية الحاكمة حينها التحول لنظام حكم ديمقراطي تناوبي،لم يكن الأمر بناءا على مطالب شعبية ولا نتاج حراك نخبوي ضاغط وإنما كان بفعل إنصياع الحاكمين -مجبرين - لمؤسسات التمويل الدولية وللشريك الاول المستعمر السابق الوصي حينها فرنسا .
كان من المفترض حينها أن تعمل النخبة على التأسيس السليم لنمط الحكم الجديد على البلد مراعية درجة الوعي الثقافي والاجتماعي لمواطنيه من المبادئ الأساسية للنظام الديمقراطي كالتناوب السلمي ومأسسة الاحزاب واستقلاليتها غايات ووسائل ،لكن انانية وفساد السلطة ٦ و انصياع و طمع النخبة جعل الكل يتفق على تجاوز أسس التأسيس السليم إلى الشكليات مما جعل الإنتقال المزعوم ييقى في حدود الشكليات وجعل البلد أمام استمرار نظام عسكري في ثوب ديمقراطي فكان ذلك اول تخلي وعجز من النخبة عن تقويم و رعاية المولود الجديد.
استمر الحال حتى صبيحة 3-أغسطس-2005 حيث كنا أمام ولادة جديدة فجائية كما السابقة لكنها تميزت هذه المرة بكون عوامل داخلية - التوتر السياسي مع الإسلاميين و مانتج عنه من غضب شعبي و الآثار المترتبة على إنقلاب 2003- هيأت لها وجعلتها متقبلة بل ومنتظرة من جل المحللين السياسيين وعاد الأمل في تقويم المسار و إعادة التأسيس و استمر هذا الأمل وظهرت بوادر تحققه خلال المرحلة الإنتقالية وتم لأول مرة انتخاب رئيس مدني و اعتراف خصم خاسر بشفافية الإنتخابات مع تحفظه على نزاهتها، ودخل رئيس جديد للقصر وكان دور النخبة حينها في التنظير والتوجيه طيلة المرحلة الإنتقالية مهما وموضوعيا في غالبية مواقفه لكن مسار تصرف الرئيس المنتخب وممارسته السلطة ومحاولة فكاكه و تخليه عن الأكف التي حملته للمنصب أعاد الأوضاع لمرحلة التوتر فكان ماكان من إنقلاب عليه حتى منفذوه مقرون بعدم شرعيته دستوريا لكن أي قراءة حول الوضع الامني والسياسي والاقتصادي للبلد حينها و تتبع لما أعقبه تعطيه كامل المشروعية.
قرر الحكام الجدد إدارة الأمور بالعودة لنقطة الصفر والتأسيس لنظام ديمقراطي كما ينبغي لا كما عرفنا منذ 1991 فكان إطلاق الحريات و مأسسة لجان الإشراف على الإنتخابات وإعادة النظر في تشكيل المجالس التشريعية والمؤسسات الدستورية و الأهم من كل هذا كان نقطتان : الإصرار على رسم الطريق لأي ساع للوصول للحكم -صناديق الإقتراع - و القضاء على ظاهرة حزب الحاكم الذي ينتهي بخروجه من السلطة و إبدالها بحزب حاكم-عن طريق الغرف التشريعية والمجالس البلدية والجهوية-قادر على الإستمرار كذراع سياسي داعم للنظام الذي يتبنى برنامجه و مستقل عن السلطة التنفيذية.
جاء تأسيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية في هذا الإطار و بمجرد وصول مؤسسه للسلطة استقال من رئاسته ليبقى مؤسسة مستقلة داعمة للسلطة التنفيذية متخذة من مبادئ الدفاع عن الصالح العام وخدمة الوطن و دمقرطة الفضاء العام مرجعية وغاية و حافظة لمكانة رموزها خاصة رئيسه المؤسس والذي كرر في أكثر من خطاب و على أكثر من منصة أن حزب الاتحاد أسس ليبقى كفاعل سياسي مأثر في الساحة ولن يكون كما احزاب الحكام الذين سبقوه.
واجهت وجهة النظر هذه صعوبات لتنفيذها على أرض الواقع وكان تعامل النخب معها محكوما بالتخوف المعتاد لدينا من أي ممارسة غير ما ألفناه فاتخذ السياسيون من عملية إصلاح الحزب فرصة لإعادة تشكيل التوازنات المبنية على المصالح الخاصة و لوبيات الضغط المعطلة للمؤسسية وباتت تشكلة مؤتمري الحزب عبارة عن ممثليات للنافذين وليس للقواعد الشعبية وحاول غالبيتهم الوقوف في طريق المسعى لتحقيق تناوب سلمي على السلطة رافضين لخروج الرئيس السابق من الحكم في مسعى لاستمرار ماكان وتخوفا على مصالحهم مما سيكون.
لكن الرئيس كان مصرا على تقديم خطوة ووضع لبنة إضافية لصرح البناء الديمقراطي فرفض دعواتهم و خرج من السلطة لرئيس منتخب له كامل الصلاحيات الدستورية ليتفرغ لتقوية و إعادة إصلاح اللبنة الأخرى الأساسية اي بناء حزب مؤسسي داعم للسلطة وللرئيس مستقل في نظمه وهيئاته قادر على الإستمرار وهنا عاد السياسيون للرفض وإثارة التوتر و رفع شعارات التفرقة بين مؤسسي المشروع الإصلاحي وعادت حملة جمع التوقيعات و الإصرار على ان يبقى الحال كما كان لسان حالهم لانود تجربة نمط جديد فقد لايكون يخدم مصالحنا الخاصة
الحراك الجديد لم يقتصر على المعنيين من اعضاء و منتخبي الحزب وإنما بات مظلة دخل تحتها المعارضون السابقون و مايعرف بأحزاب الأغلبية و المبادرات والكتل و كل الداعمين مما جعل الرئيس السابق و الرئيس الحالي أمام جولة جديدة من معركة التأسيس الديمقراطي السليم تتوافر لديهم إمكانيات حسمها أكثر مما تتوافر لدى مناهضيها و بمجرد ان تكتمل خطة امتصاص الصدمة وردات فعل أصحاب الحراك سيجدون انفسهم مضطرين للتخلي عن التواقيع والتوقف عن الاجتماعات وإصدار البيانات تماما كما حدث مع حراكهم المطالب بمأمورية ثالثة.
لا يعني ذلك ان مسار البناء الديمقراطي التراكمي سينتهي هنا فحتى مع حسم هذه الجولة من المعركة المتعلقة بالحزب سيعيد المتمصلحون تنظيم صفوفهم و يبدلون مواقعهم بشكل يجعلهم قادرين على التأقلم والإستفادة من الوضع الجديد .