إن الفلسفة هي شكل حي من أشكال الثقافة، و ليست فقط نتاجات ميتة، إنها مجهود يسعى لتمثل الأعمال الماضية و وضع الوسائل لتطور الحاضر، لهذا لابد من إظهار قيمتها كوسيلة لتطوير الإنسان و تربيته. يقول الجرجاني: " الفلسفة هي التشبه بالإله، بحسب الطاقة البشرية لتحصيل السعادة الأبدية، كما يقول الصادق صلى الله عليه وسلم: (تخلقوا بخلق الله) " أي تشبهوا به في الإحاطة بالمعلومات و التجرد عن الجسمانيات، فهل يمكننا، بعد هذا، التساؤل عما تعنيه"الفلسفة"؟
إذا قصدنا بهذا السؤال التعرف على موضوع جاهز قابل للتعريف فلابد أننا سنصاب بخيبة أمل، أما إذا أخذ السؤال معنى فلسفيا فعندها تطرح إشكالية تعريف متعدد الأبعاد، و يمتنع عن إعطاء تعريف بسيط"للفلسفة"،هنا نجد انفسنا مجبرين على الاستعانة بالتساؤلات التالية علها تمكننا من التدقيق في مقاربة السؤال:
ما الذي يميز الفلسفة عن غيرها من أشكال التفكير ؟ ماهي ضرورتها في حياة الانسان، فردا كان أو جماعة؟ و كيف تجد مكانها بين أشكال أخرى من التفكير أو المعرفة أو الخطاب؟ هل الفلسفة علم؟ و إن لم تكن علما فهل لها علاقة بالعلوم؟ و هل هذه العلاقة هي علاقة تقارب ام علاقة تنافر؟...
إن هذه الاسئلة تلامس عن قرب طبيعة التفكير الفلسفي، كما تلامس مميزاته أيضا، و الأكيد أن التفكير في هذه القضايا يتطلب اندماجا في هذا التفكير ذاته، ومعنى ذلك ان نتناول تعريف الفلسفة من خلال الحديث عن أصولها .
إننا نلج عالم الفلسفة بطرحنا لأي سؤال حول مصيرنا و سلوكنا و رغباتنا و قدراتنا... لكن تنوع الأسئلة التي نطرحها و اختلافها من حيث الشمولية و العمق يؤكد أمرا أساسيا، وهو أننا كلما وضعنا سؤالا من تلك الأسئلة إلا و نضع معرفة جاهزة لدينا، و أجوبة حاضرة موضع تساؤل، و كأن الخطوة الأولى هي البحث في تلك المعرفة المكتسبة و التساؤل حولها و فحص قيمتها: ماذا أعرف اذن؟ و كيف أعرف ؟و هل أعرف فعلا؟ هذه أسئلة لا يطرحها جميع الناس لأن فيها مراجعة لمكانةالفرد الإجتماعية و لامتيازاته، لكن الفيلسوف يطرحها لأنها بداية طريق التفلسف.
إن الفلسفة إذ تبدأ مع رفض الجاهز أو وهم المعرفة فهي تنفصل عن قيم و مبادئ الحياة العملية السائدة بين الناس، لهذا تبدو وكأنها هروب من العالم و لكن قبل ان نحكم على علاقتها بالعالم الخارجي حكما خارجيا، نتساءل هل الفلسفة بحث عن المعرفة ؟ أم انها هي أصلا معرفة ؟و إذا كانت كذلك فبماذا تتصف؟
إن أول سمة حاول الفلاسفة أن يميزوا بها الفلسفة هي أنها تتجاوز المعرفة الجزئية الى معرفة كلية و أساسية/شمولية ، على أن هذه الصفة الأساسية تنتهي الى بحث أول عن الأساس الذي يجعل من الفلسفة معرفة صادقة، ذلك أنه لا يكفي أن نرفض المعرفة العامية السائدة، و نعتقد أننا تخلصنا منها، بل لابد من التمييز بينهما و بين معرفة واضحة لا شك في صدقها ووضوحها.
إن الفلسفة ليست مجرد تفكير و تنظيم للأفكار فحسب ،بل ايضا خطاب يوجه للآخرين قصد التواصل، و شاغل الفيلسوف ليس مجرد إيصال أفكاره إلى الآخرين، بل هو إقناعهم بصحة أفكاره و تماسكها معتمدا في ذلك على البرهان،لكن ماذا يبلغ للمتلقي؟ هل يبلغه معرفة ؟و هنا يبقى على الفلسوف أن يوضح المقصود بالمعرفة، فإذا ظلت الفلسفة تحاول أن تجد لنفسها معرفة رغم اختصاص العلوم ببناء المعارف، فهي معرفة خاصة ومتميزة، فما الذي تبقّى للفلسفة لكي تقدمه؟
إننا بمجرد أن "نبدأ التفكير بطريقة فلسفية حتى نرى بان الاشياء العادية نفسها تطرح اشكالات لانجد لها سوى إجابات غير كاملة" (برتراند راسل B.Russel) ، و هذا النوع من الإجابات لا يعني النقص في الإجابة بل يعني التساؤل المستمر الذي ترتبط به الفلسفة، و بهذا يكون وضع الحقيقة فيها وضعا خاصا، لكن الاتفاق أو الإختلاف حول الفلسفة و مكانتها الخاصة لايعني حل مشكلها في علاقتها بالإنسان، فهل هي نشاط فردي منعزل ؟ ألا يمكن أن تكون فردية تبعا لنشاتها ذاتها و لتطورها ولطبيعتها؟ و عندما تدرس في المدارس و الجامعات ماذا يلقن فيها ؟ينبغي ان نقول أولا بأنها أخلاق تضمن حرية التفكير و استقامته، وأنها ثانيا التزام اتجاه الآخر ، فهل الفيلسوف، اذن، نسيج وحيد لايمت للآخرين سوى بصلات يكون فيها الازدراء أو العدوان؟ أم تراه بطلا لا يمكن أن يكون له نظير بين عامة الناس بل إن خطابه يتعالى عنهم؟
يقول موريس ميرلوبونتي(M.Merloponty) : " إننا لا نتفلسف بمغادرتنا لموقف الإنسان" وهذا يعني التزام الفيلسوف بعلاقات انسانية و اجتماعية، و من موقع عقلي خاص يتكلم الفيلسوف ضد العنف، و هذا ما يعطي خطابه معنى و يجعله فعلا حيا باستمرار و متعاليا عن المباشرة و العدوان وسلطة القوة.