نحو سنة من الإدارة بدون أحزاب - 2)
لماذا تؤسس أو تؤسسين الحزب و لماذا تنتسبون إلى هذا الحزب ؟ ما هي أهدافكم ما هي اليوتوبيات و المثل التي تحرككم ؟
في الستينات و السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي لم يكن أحد ليطرح هذين السؤالين على القادة و المناضلين السياسيين، لأن هؤلاء كانوا مستغرقين ظاهرا و باطنا بالمثل و المبادئ، و كانوا متطوعين و مناضلين و مجاهدين،يبذلون الغالي و النفيس، و تنزع أظافرهم و "يجكورون" - نسبة إلى تقنية جكوار في السجون -و يستشهدون في سبيل مطالب استقلال و وحدة الوطن و المساواة و الرفاهية و التوزيع العادل للثروات بين أبنائه، و نحو ذلك. و كانت القوى السياسية تولد مبنية للمجهول، من رحم الوعي الجمعي، في ارتباط بسياق وطني أو قومي عام و مشترك بين الجميع.
في هذه الأيام أطرح هذين السؤالينعلى السياسيين الحزبيين في موريتانيا - على طريقة "سقراط" في أسئلته للنخبة و الجمهور في أثينا - و أتحداهم جميعا، و بلا استثناء، إن يقدموا لي إجابات لا أتمكن بسهولة من كشفعشرات مظاهر التناقض و الازدواجية داخلها، مع مئات الشواهد على التناقض بين خطاباتهم الموجهة للاستهلاك العام و ممارساتهم السياسية اليومية الاعتيادية و بين الخطابات التي يقدمونها في الجلسات الخاصة أو خلال لحظات الحقيقة، بمناسبة الحملات الانتخابية.
ذلك شيء تعرفونه جميعا، و يعرفه "الذئب الذي بشمال ولاتة"، و التحدي بخصوصه و رهاني عليه جدي، و أنا مستعد لمواجهة أي من المعنيين علنيا بخصوص هذه المسألة. لكنني اليوم أثير هذه الشكوك و أسلط الضوء على هذا المجال المعتم من حياة أحزابنا و سياسيينا لسبب آخر. إن مواطني بلدي ممن يعملون في الإدارة العمومية و المؤسسات الحكومية، أو في مجال المبادرة غير الحكومية على مستوىالمقاولات والبرامج التنموية لمنظمات المجتمع المدني الوطنية و الدولية، يعانون من المنافسة غير النزيهة للسياسيين.
هنا يطرح سؤالان نفسهما :
الأول: هل الأحزاب السياسية تنظيمات اجتماعية تطوعية ذات نفع عام أم هي مؤسسات و شركات للتشغيل و الربح و كسب الخبز اليومي ؟ هل المطلوب أن ينتسب المواطن للحزب اقتناعا بمشروعه المجتمعي أولا و بقياداته ثانيا، مساهما بماله و جهده و وقته لخدمة الحزب، أم أن الانتساب للأحزاب يأتي في سياق البحث عن فرصة عمل أو تدعيم المركز المهني أو تحسين فرص المقاول التجاري في السوق و سوق المقاولات العمومية بصفة خاصة ؟
هذا السؤال أتركه بدون تعليق اليوم، و أكتفي بخصوصه بمطالبة الباحثين الموريتانيين بإطلاق مشروع بحثي حول الفساد المالي و النهب لتمويلات الأحزاب و الحملات الانتخابية، خصوصا منها تلك الأموال المرصودة من طرف الدولة و المتحصل عليها من تبرعات فقراء القبائل في مختلف مناطق البلاد، مع مشروع بحثي آخر حول الشفافية داخل المصالح المحاسبية للأحزاب الموريتانية.
الثاني: هل النجاح في تحقيق الأهداف المرسومة لمختلف القطاعات الحكومية و غير الحكومية يحتاج إلى تدخل السياسيين الحزبيين أم أن لهذا النجاح معاييره المهنية الداخلية، التي يعتبر الموظفون الحكوميون و المقاولون الخصوصيون و الناشطون المدنيونالأكثر خبرة و الأرجح صدقا و نزاهة لمواجهته ؟ أيهما أصلح لقيادة الوصول الآمن إلى أهداف الوزارات و المصالح العمومية، المهنيون المكتتبون من طرف الوظيفة العمومية في إطار مسابقات شفافة أو مسارات تسوية مهنية قانونية و عادلة، أم الكوادر و الناشطون السياسيون الذين يعينون لقيادة قطاعات و مؤسسات ليسوا من موظفيها المهنيين ؟
بما أنني هذا المساء تلميذ لسقراط يركز على الأسئلة أكثر من الإجابات، فإنني سأترك لكم التعامل مع هذه الأسئلة. لكنني سأخالف تلك القاعدة بخصوص الفقرة الأخيرة من السؤال الثاني لأنني سأقدم بخصوصها رأيا تنفيذيا. و هذا الرأي أوجهه لرئيس الجمهورية و هو يستعد لتشكيل حكومته، و تعيين الذين سيكلفهم بالمهام المختلفة في سياق خطته الإصلاحية و التنموية.
لقائد موريتانيا 20 – 30 نقول : إن مقتضى المساواة بين المواطنين، و إن البرغماتية في السعي إلى تحقيق نتائج ملموسة، و إن منح الأولوية للعدالة و التنميةالاقتصادية و الاجتماعية و الخدمات العمومية و الأهداف الإستراتيجية الكبرى، يقتضي الاعتماد في قيادة القطاعات الحكومية على مستوى الوزراء، و قيادة و توجيه الملفات الفنية على مستوى الإدارات المركزية و المصالح و الأقسام، على النخبة من الكوادر المهنية في مختلف القطاعات.
و بالمقابل أفيدكم فخامة الرئيس أن السياسيينعودونا -في كل مرة يقودون فيها قطاعا وزاريا أو يسيرون ملفا فنيا- على معاملة المهنيين كمنافسين و خصوم، و على اعتبار المعايير المهنية المتعلقة بالتسيير القانوني الشفاف للمصادر البشرية و المالية قيودا و عراقيل.لنقل بكلمة واحدة إن السياسيين غيرالمهنيين عملوا غالباكطفيليات تتغذى من تطفيف العمل الحكومي المهني، على نحو يعرقل تحقيق الأهداف القريبة و البعيدة و المتوسطة المدى للتنمية و العدالة.
نواكشوط 2 أغسطس 2019