أمر طبيعي أن تتدهور نسبة ناجحي الآداب العصريّة إلى هذا الحد المخيف، رغم أنّها مرتكز لقطاعات واسعة لا نهضة للدولة إلاّ بها كالتعليم والثقافة والإعلام والدبلوماسية والاقتصاد والترجمة.. ذلك أمر مفهوم بالنظر إلى الحرب التي أعلنها النظام عليها - مع شقيقتها الآداب الأصلية - منذ تولّيه مقاليد الحكم في البلد حتى عافها الأهل والتلاميذ وتمّ التشهير بها والتقليل من أهميتها، واعتبار باب التوظيف مغلقا تماما أمام حاملي شهاداتها، فهجرها من هو حفيّ بها ورضي بها من لا بديل له عنها، وفِي الأغلب لا يسعفه المستوى إلى درجة أنّ الكثيرين من الممتحنين فيها لا يتوفّرون على مستوى المرحلة الإعدادية ومنهم من تخاله لا يملك المستوى الابتدائي فكيف يحصل والحالة هذه على الباكلوريا؟
وهذا يُنبِئُك عن مدى الخَوَر الذي تشهده كل مفاصل ومحطات العملية التربوية برُمّتها.
طبيعي أن تكون نسبة النجاح في هذه الشعبة على صعيد بعض الولايات صفرا إذ لا وجود - في الأغلب الأعم - لمدرّسين من ذوي الخبرة والكفاءة هناك، وإنّما هؤلاء - على قلّتهم أصلا - يمّموا وجوههم صوب انواكشوط حيث تساعدهم مؤسسات التعليم الخاص على تحقيق أدنى مقومات الحياة في هذا العالم المادي الصارخ الذي يطحن بلا رحمة ذوي الأجور الضعيفة ومنهم المدرّسون.
لا بدّ أن تكون نسبة النجاح في هذه الشعبة بهذا المستوى الكارثي أيضا لأن الدولة أصبحت تعتمد في سياستها التعليمية منذ سنوات عديدة على العقدويين الذين لا كفاءة لهم ولا خبرة ولا تخصّص أحيانا، والقاعدة تقول بأنّ فاقد الشيء لا يعطيه. وإذا أضيفت إلى هذه التحديات مشكلات المنهج الدراسي وطريقة طرح الأسئلة في الباكلوريا تعقّدت الأمور أكثر، إذ هناك اختلالات جوهرية في المنهج لها تأثيرها المباشر على هذه الحصيلة البائسة، من ذلك - على سبيل المثال - أنّ التلميذ في الباكلوريا مطالب بتحليل النص الأدبي تحليلا بنيويا، وهو في الواقع لا يعلم شيئا عن المنهج البنيوي ما دام ليس مقرّرا عليه، في الوقت الذي يدرُس مناهج أخرى هو في غنى عنها أو أهميّتها بالنسبة إليه أقل كالمنهج النفسي والتاريخي والاجتماعي ممّا يشكّل انفصاما حادا بين ما يدرسه التلميذ وما يمتحن فيه..
أما طريقة طرح الأسئلة فيحار العقل فيها أحيانا، هل يراد بها تجفيف منابع هذه الشعبة أو تعجيز التلاميذ، من ذلك ما يحصل دائما وحصل هذا العام في موضوع الفلسفة حيث انقسم الأساتذة المختصّون بشكل حاد حول فهم أحد الأسئلة البارزة في الامتحان وطريقة الجواب عليه، فكيف سيكون حال التلاميذ في مثل هذه الحالة؟!
وإذا تجاوزنا هذه المعضلات انتصبت أمامنا معضلة أخرى تتعلَق بالتصحيح، فليس الذين يتمّ اختيارهم للتصحيح دائما من أفضل الموجود، بل هناك إهمال وزبونية لا يخفيان على ذي بصيرة، ففي حين يُغَيَّب عن التصحيح بعض قدماء المدرّسين ممّن خبروا المجال طويلا ومارسوه أو يتمّ توجيههم إلى شعب أخرى ليست اللغة والأدب من موادّها الرئيسية كالعلوم والرياضيات مع الحاجة الماسّة إليهم في الشعبة الأدبية يُدفَع ببعض الخرّيجين ممن لا خبرة لهم ولا تجربة ومنهم من لا يعرف حتى طريقة التصحيح ليصحّحوا هذه الشعبة المختصة، وزيادة على ذلك تختلف درجة المسؤولية في التصحيح التزاما وتلاعبا، دقّة وتساهلا بين مصحّح وآخر، وهذا يعني أن الوزارة لا تمتلك قاعدة بيانات ضرورية عن مدرّسيها وأقدميتهم وجدّيتهم في التصحيح، أو أنّها لا تهتمّ لذلك.
تأتي بعد هذا مشكلة كبرى وهي اللغات الأجنبية (الفرنسية والإنگليزية)، فمن أكبر سلبيات الإصلاح الجديد الفشل الذريع في تدريس هذه اللغات للتلاميذ فكثيرا ما يخرج التلميذ منها بعد اثنتي عشرة حِجَة خالي الوفاض، رغم أهميتها وخطورتها على صعيد الضارب ونسب النجاح في شعبة الآداب الحديثة بالذات، وهنا لا أكاد أبالغ إذا قلت إنّ الواحد بالمائة ترجمةٌ أمينة لمستويات التلاميذ في هذه اللغات تحديدا.
هذه محاولة سريعة لتشخيص جوهر الإشكال بالنسبة لشعبة الآداب الحديثة، ولا شك أنّ السعي الجاد إلى الحل الناجع يقتضي غربلة كلّ هذه المشاكل الحادة والبحث لها عن الحلول المناسبة في أسرع وقت، وإلا فلا فليس بعد الواحد إلاّ الصفر.