لم تقبل نخبتنا حركة التاريخ، ولم تستوعب واقع الحياة المعاصرة، بل مازالت الى الحين تتجاهل الثورة الفكرية التي وصل إليها العقل البشري ، ولما تقبل سيرورة الأحداث و الصراعات الفكرية و العقدية .
إن سسيولوجيا الإنتخابات الرئاسية 2019م في الجمهورية الإسلامية الموريتانية تفرض علينا أن نتحرر من ميولنا و أهوائنا وننتصر لضمير الإنسانية في العدالة والتنمية واللحمة الإجتماعية وتكافؤ الفرص .
مدلولات الإنتخابات الرئاسية، تدفع فعلا الى القلق، وتستدعي مراجعة فورية، و متبصرة، لواقعنا المزري، فمجتمع مازال مبني على الهرمية التقليدية في الألفية الثالثة يحتاج الى مضادات حيوية لصقل ملكات نخبته إذا كانت فعلا نخبة تحتسب أنها تعي ما تكتب، و تعرف ما تقرأ.
مجتمعنا مازال يعاني من خلل بنيوي ، وهذا الخلل هو ما جعل الحركات الثورية، تلقى استجابة واسعة في المجتمع خاصة الطبقات المسحوقة، التي عانت من ظلم تاريخي بشع، ومالا يعيه البعض، أن مجتمع الآلة ساهم في نشر الوعي، والتحرر من الفكر الرسوبي وعليه فإن نتائج الإنتخابات الرئاسية 2019م إذا أردنا أن نقرأها قراءة صحيحة فإنه يتوجب علينا أن نقر بفشل السياسات الأقتصادية والإجتماعية والثقافية التي قيم بها في عهد أول رئيس الى آخر رئيس حكم البلاد .
لقد دعا بعضهم للوقوف دون ترشح الحقوقي بيرام الداه اعبيد أو رئيس القوى الشعبية كان حاميدو بابا وشبه وضعية موريتانيا بوضعية المجتمع الفرنسي الحالي و إنقسامه بين اليمين المتطرف و القوى الأخرى ، تناسى هؤلاء أن بيرام الداه اعبيد لا هو بالمعارض ولا هو بالغول الذي سيبتلع كل الكائنات، ولا هو بالموالي المطيع ، إنه سياسي يحمل رسالة إنسانية قبل أن يشكل خطرا على المجتمع- وقد وعت السلطة ذلك- ف " أمدته بجندها وجنودها من المستشارين 2014 وزكته لمصلحتهما المشتركة وخاض الرئاسيات آنذاك ثم أعادت الكرة مرة ثانية فزكته ب عمدها و مستشاريها و أحرز على الرتبة الثالثة من المترشحين وجاء وصيفا للفريق المتقاعد مرشح الأغلبية الفائز محمد ولد الغزواني فالنسبة التي تحصل عليها بيرام الداه اعبيد 170000 من مكونة واحدة تقريباً يبعث الى القلق فعلاً والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا، مادامت العوامل المادية ضعيفة، ؟ ولماذا فشلت السلطة في إقناع هؤلاء ، رغم محدودية وسائلهم ، ولا تلام الرعية على ذلك، فالمسؤول الأول و الأخير هو النظام، فالتجمعات السكنية لآدوابة تشبه حياة المجتمعات البدائية الغابرة، وأغلبها يفتقر الى الخدمات الأساسية، لا مياه، ولا كهرباء، ولا نقاط صحية، و لا مدارس ، وإذا وجدت فإن الوسائل المحفزة لإستمراريتها، و إقامة العمال فيها غير متاحة ، ناهيك عن الغبن في المناصب السامية، والوزراء، والإدارات، ومثل هكذا أمثلة نجدها في أدبيات الأحزاب السياسية ذات المرجعيات الأيديولوجية ، وكذا الحركات الثورية التي تكونت على أنقاض حركة " الحر " مثل منظمات المجتمع المدني، " نجدت العبيد " و إيرا، والميثاق ، هذا المخاض أنجب حراكا توعويًّا آخر هو حراك " لمعلمين " في مجتمع البيظان المحافظ.
الهرع الى القصر الرئاسي !!
لئن كان الفرنسيون قد هرعوا الى ساحة الجمهورية صفا واحدا دفاعا عن قيم الجمهورية ضد الحراك الشعبوي بزعامة ماري لوبينه ، فقد هرع الموريتانيون أيضا صفا واحدا غيرة على الوطن والدين معا بكل أطيافهم ففي 27 إبريل 2012 خرج الموريتانيون منددين بمحرقة أمهات الكتب الإسلامية ، وفي 25 دجنبر 2014 انتفض الموريتانيون جميعا في كل شبر من أرض الوطن ضد كاتب المقال المسيء للجناب النبوي الشريف محمد الشيخ ولد امخيطير، وتكونت جموع النصرة بعد ذلك، وفي 29 إبريل 2013 تكون الميثاق الوطني للحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لشريحة لحراطين كل هذه الأحداث تعود في الأساس الى جوانب سياسية و إجتماعية، فشريحة لمعلمين تعاني من إضطهاد في المؤسسة الإجتماعية على العموم، ولحراطين أو الأرقاء السابقين يعانون من غبن و تهميش شديدين في ظل الدولة المدنية الحديثة، فلماذا لا تهرع النخبة المتعلمة الى ساحة الجمهورية تطالب بالمساواة والعدالة الإجتماعية؟ إذا كانت الفئات الإجتماعية تعلمت جميعا، لماذا لاننظر الى الأشياء من زوايا متعددة: عامل الكم، عامل الكيف، الكفاءة وليس الجهة أو الحسب والنسب، لماذا تشكل الميثاق و إيرا و حراك لمعلمين؟ من منظور سوسيو سياسي و ثقافي و إجتماعي لماذا لا نشاهد جموع البيظان في مهرجانات بيرام الداه اعبيد و كان حاميدو بابا بينما نشاهد كل الأعراق في مهرجانات مرشح النظام و قوى التغيير المدنية محمد ولد مولود؟ لنهرع جميعا الى ساحة الجمهورية مثلما هرعنا إليها في مسيرة الوحدة الوطنية ضد دعاة الكراهية والخطاب المتطرف، التي فشلت أيضا مادامت نتائج الإنتخابات الرئاسية أسفرت عن تصدع في البنية الإجتماعية و رسخت الشرائحية بكل تجلياتها؟
التداخل بين الصحوة و الفكر التوعوي !!
المجتمع الموريتاني تأثر هو الآخر بالحركة الإسلامية العالمية خاصة جماعة الإخوان المسلمين و الدعوة والتبليغ وتزامن ظهورهما مع التعددية السياسية في البلاد أواخر الثمانينات واستفادت منهما أكثر الطبقات الهشة و الفئات الشبابية وقد ظهر هذا جليا في حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية تواصل الذي يعتبر أكثر الأحزاب توازنا وتطبيقا لمعيار المساواة بين مختلف المكونات الإجتماعية الشيء الذي جعل معتنقي الفكر الأيديولوجي الإسلاماوي يكسرون الحواجز الإجتماعية و يلقون قبولا منقطع النظير حتى في الأوساط الإفريقية.
ولد الغزواني ..و لملمة الجراح والعبور نحو المجهول !!
ليس النجاح خطوط معبدة أو مؤسسات تعد بأصابع اليد، فمن يحتسب ذلك نجاحا فهو واهم، فالنجاح مكتمل الأركان ، فيجب على المثقف أن يميز بين العوامل التي تقود الى النجاح، و النجاح المنشود، فالطرق مهمة وضرورية ولا تنمية بدونها، ولكن الطرق متنوعة ولا تقتصر على الطرق المعبدة وحدها، فالطرق السيارة معدومة لا في العاصمة نواكشوط ولا في المدن الداخلية والسكك الحديدية معدومة بإستثناء سكة إزويرات نواذيبو والجسور المعلقة كذلك والكثير من المحاور الطرقية متآكلة بين الولايات والعاصمة ومعدل الوفيات يقارب معدل الحروب الأهلية في الدول المنكوبة.
النجاح في المجال الزراعي يعني الإستغناء عن المنتجات الزراعية الأجنبية، يعني تصدير الفائض، يعني تحقيق الإكتفاء الذاتي ، يعني توفير الخدمات الزراعية بأخفض الأثمان، فهل تحقق شيئا من ذلك؟
النجاح في المجال الصحي يعني توفير العلاجات الصحية و المستلزمات الطبية و مجانيتها أو تخفيضها وتوفير سيارات الإسعاف في أغلب النقاط الصحية فهل تحقق شيئا من ذلك ألم يطالب الأطباء بتحسين ظروفهم المعيشية و مراجعة أسلاكهم؟
النجاح في التعليم يعني إنخفاض الأمية وإرتفاع نسبة المتعلمين ورفع مستوى المعيشة للمعلمين وتوفير السكن لهم ألم تنتهي السنة بإضراب للمعلمين و وقفات لهم في عموم البلاد و نسبة النجاح في الباكالوريا هي الأضعف في المنطقة المغاربية ؟
النجاح يعني تدني نسبة البطالة وتوفير السكن للعمال ألم يتظاهر عمال إسنيم من حين لآخر؟
النجاح يعني خطط إقتصادية سريعة الفعالية متوسطة و بعيدة المدى، خطة تقرب بين الطبقات الإجتماعية الغنية والمتوسطة والضعيفة، النجاح يعني القضاء على الفساد الإداري و الرشوة و الجهوية، النجاح يعني الإستغلال الأمثل للثروات وتوزيعها حسب الأولويات ...حدثت في العشريات الماضية واللاحقة إنجازات في مختلف المجالات، ولكن؛ تركة 5 مليارات دولار من الديون في فترة وجيزة من أكبر النكبات للرئيس، فلا يحتسب الموالاة أن البساط الاحمر، المزركش بالورود، سيكون بداية خمسية من العطاء المثمر، فالطريق مليء بالأشواك، الل كان ماتل، الشعب يريد أن يسعد بالأمن الغذائي، و بنية تحتية راقية، ومدن معبدة، وتعليم أفضل، وقدرة شرائية مرتفعة، و أمن جماعي، و مجتمع قوي، متآخي، لا فضل فيه لعربي على عجمي إلا بالتقوى...
ومع أنني من أولئك الذين لا يرون في المحاصصة حلاًّ إلا أنني أمقت الغبن الصامت، فمعيار الكم يجب أن يراعى و كذلك الكيف و التمييز الإيجابي الذي بينت التجارب جدوائيته في مسابقة دخول السنة الأولى من التعليم المتوسط أيام اللجنة العسكرية للخلاص الوطني يجب أن يراعى ، فعندما تتحسن الظروف الأقتصادية تذوب الفوارق و تتقوى اللحمة الوطنية فليس من المعقول أن تنجح دول بدون موارد إقتصادية مثل ماليزيا و رواندا و سنغفورة وتبقى بلاد جبل الحديد وصفائح الذهب؟
قناعتي أن المجتمع الفرنسي لم يكن مجتمعا هرميا، و مصدر للوعي والتلاقح الحضاري، وبالتالي يلتئم كلما شعر بتهديد قيمه، وقناعتي أن القيم الأخلاقية تترجم عمليا على أرض الواقع، فلا تناقض الدين، ولا تناقض المثل الإنسانوية ، فهل شعر الأميريكان بالخطر لما تحققت نبوءات مارتن لوثر كينج، لا ، وألف لا ، أغنية كهذه يرددها كل شخص يعزف على أوتار الأنانية ، ويحتسب نفسه مصلحا، وما هو إلا معول هدم، و تخريب....قناعتي أن المجتمع تطور، و تغير، فلنقبل التغير، والتطور...
قناعتي أننا لم نذهب بعيدا، فمزال العربي عربي، والأمير أمير، والزاوي زاوي ، والعبد عبد ، و لمعلم امعلم، وإيكيو إيكيو، وموريتانيا قبل الحداثة ، هي موريتانيا اليوم ، التطور شيء ، و البناء شيء آخر، صحيح حدث شيء على مستوى العقلية، ولكن ليس بتلك الدرجة، فالعبودية التقليدية لما تنجلي كليا، لا من ناحية العقار، ولا من ناحية العقد الإجتماعي، و جيل التأسيس حافظ على الموروث الثقافي، والإجتماعي المؤسساتي بل ورسخه في الذهنية الجمعوية ومازالت أطلاله قائمة حتى اللحظة ، ف عن أي تطور نتحدث، وعن أي بناء نعني، فمجتمع استهلاكي لا يمكن أن يتطور، ومجتمع لا يتأثر بالمناخ الدولي لايمكن أن ينمو، أو ينهض ؟؟؟