لا يختلف اثنان على أن واقع التعليم اليوم في موريتانيا غير مرض البتة وأنه لا يؤدي دوره الطبيعي المتمثل في بناء شخصية المواطن الموريتاني القادر على تحمل المسؤولية والمساهمة في بناء الوطن.
لقد تعطل دور المدرسة فلم تعد تكون الأجيال الأكفاء الوطنيين والسبب في ذلك يعود في الأساس إلى تخلي المسؤولين عن المدرسة عن دورهم في حسن أداءها لمهمتها. ويمكننا أن نعتبر أن سبب تردي أي نظام تعليمي يعود أساسا لعوامل ثلاث رئيسة إما لضعف الإرادة السياسية أو عجز الإدارة الوصية (الحكامة الرشيدة) أو إقصاء أولياء التلاميذ من المشورة بشأن الحياة المدرسية. وبقدر اختلال هذه الركائز الثلاث يختل النظام التعليمي في البلدان.
ولقد أتاح لي عملي مستشارا لأربعة وزراء للتعليم بمختلف مستوياته أن كانت لي نظرة شاملة على قطاع التعليم، خاصة وأنني عضو في لجنة قيادة البرنامج الوطني لتنمية قطاع التعليم PNDSE.
إن أهم حقيقة استخلصتها من عملي في الدوائر المعنية بقطاع التعليم هي أن جل اهتمام أصحاب القرار سواء من الإدارة الوصية أو من الشركاء الماليين والفنيين قد انصب على جانب واحد من الجوانب المتعددة لقطاع التعليم وهو البنى التحتية وكان ذلك على حساب الجوانب المحورية في العملية التربوية وهي التلاميذ والمعلمون والأسرة.
طاقات استيعابية معتبرة من حيث البنية التحتية
لقد عرفت موريتانيا خلال السنوات الأخيرة (2010-2018) طفرة كبيرة في البنية التحتية المدرسية كان من نتائجها أن اتسعت الطاقة الاستيعابية لمؤسسات التعليم مما سمح باستقبال جيل كامل من الأطفال في المدرسة العمومية. وقد انتقل عدد التلاميذ من 553000 عام 2011 ليصل عام 2018 في التعليم الأساسي إلى 655261 تلميذ وفي نفس الفترة الزمنية انتقل عدد التلاميذ في المستوى الإعدادي من 151000 إلى أزيد من 210.000 تلميذ. وفي الجانب التأطيري تتوفر وزارة التهذيب الوطني حسب إحصائيات 2018 على عدد معتبر من المعلمين بلغ 14.945 معلم في حين بلغ عدد عمال القطاع من غير المعلمين ما يناهز 10.000 عامل. ومن جهة أخرى يتوفر قطاع التعليم على 4119 مدرسة. وهو ما مكن من الوصول إلى نسبة تمدرس بلغت 100% في التعليم الأساسي. وتخصص الدولة 19% من مواردها للإنفاق على قطاع التعليم وهي نسبة مرتفعة، وإن كانت أقل من المتوسط في دول الجوار حيث تبلغ هذه النسبة 26%.
وبالنظر إلى هذه الأرقام يمكننا أن نتوقع أن بلدنا قد حقق الأهداف العالمية في مجال التعليم خاصة فيما يتعلق بالولوج الشامل إلى المدرسة. لكن الوضعية المزرية التي يعيشها القطاع تجعلنا نتسائل عن سبب هذا الاختلال المتمثل في توفر البنى التحتية والطاقم التدريسي مع ضعف واضح في أداء منظومتنا التعليمية. بل إن جميع المؤشرات الموضوعية تحذرنا من التدهور المستمر للتعليم في بلدنا.
مظاهر من الاختلال الذي يجتاح قطاع التعليم في موريتانيا:
فالمدارس رغم كثرتها إلا أن عددا كبيرا منها لا يوفر ظروفا ملائمة للتعلم وتنعدم فيه أية عوامل جذب للأطفال. فنقص المقاعد في المدارس يبلغ 145.000 مقعد. ونسبة المراحيض فيها لا تتجاوز مرحاضا واحدا لكل 32 قسما (أي حوالي مرحاض واحد لكل ثلاث مدارس). كما أن 80% من المدارس تفتقر إلى ساحات للعب والرياضة. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد فلو عدنا إلى نسبة التمدرس آنفة الذكر فإنها تخفي معطيات سلبية. فنسبة التمدرس الخام تبلغ 100% كما أسلفنا لكن صافي نسبة التمدرس تتجاوز بالكاد 80%. ويقدر عدد التلاميذ الذين يغادرون المدرسة مبكرا قبل اكتمال تعليمهم ب 230.000 تلميذ منهم 109.000 لم يدخلوا المدرسة إطلاقا.
وفي التعليم الإعدادي تبرز ظاهرة التفاوت الصارخ بين المؤسسات إذ تقدر نسبة التمدرس الخام ب 42% لكن هذه النسبة في الواقع تختلف بحسب المناطق فتبلغ حوالي 90% في نواكشوط الغربية بينما لا تتجاوز 19% في الحوض الشرقي. وتزداد الهوة اتساعا إذا تعلق الأمر بالتعليم الثانوي حيث تصل نسبة التمدرس في المتوسط 26% لكنها تصل إلى105% في نواكشوط الغربية بينما لا تتجاوز 09% في الحوض الشرقي ولعصابه وكيديماغا.
ويمكننا أن نضيف إلى هذه الأرقام السلبية أن عدد الاعداديات عام 2017 بلغ 308 إعدادية لكن 121 فقط منها تتوفر على الماء والكهرباء. ومن بين 110 ثانويات 22 منها لا تتوفر على الماء و36 لا تتوفر على الكهرباء. يضاف إلى ذلك أن 29 إعدادية و21 ثانوية فقط تتوفر على قاعة للمعلوماتية.
تراجع في الجودة والمخرجات
وبالجملة فإن عدد التلاميذ قد عرف زيادة كبيرة مع اتساع الطاقة الاستيعابية لمؤسسات التعليم الأساسي لكن الجودة لم تصاحب ذلك الارتفاع في العدد وفي الطاقة الاستيعابية. بل يمكننا القول، استنادا إلى التقييمات التي تم إخضاع التلاميذ لها، إن جودة التعليم تشهد تدهورا غير مسبوق. إذ تشير نتائج تلك الاختبارات التي قامت بها مصلحة التقييم والمتابعة بوزارة التهذيب لقياس مستوى استيعاب التلاميذ للمعارف والمهارات أن نسبة نجاح التلاميذ لم تبلغ 35% في جميع المواد وأما في الرياضيات فلم تتجاوز نسبة النجاح 8.5 %. كما دلت تلك النتائج على تدني كبير في المستويات في اللغات.
ولا شك أن نسبة النجاح في المسابقات في قطاع التعليم تعكس تدني المستويات المذكور آنفا. ففي السنة الدراسية 2016-2017 لم تتجاوز نسبة النجاح 26% في مسابقة ختم الدروس الابتدائية، و29% في مسابقة ختم الدروس الإعدادية، و15 % في الباكولوريا.
نقص التكوين والكفاءة في الطاقم التدريسي
أما المعلمون فرغم كثرة عددهم إلا أنهم في الغالب لا يمتلكون الكفاءة المهنية اللازمة ولم يستفيدوا من التكوين الجيد مع غياب شبه تام للتكوين المستمر وعدم ملائمة المحتوى البيداغوجي في مدارس المعلمين عندنا لما عليه الحال في الأنظمة التعليمية الناجحة في العالم. فنسبة 60% من المعلمين فقط خضعوا للتكوين في مدارس تكوين المعلمين، ما يعني أن 40% لم تخضع لأي تكوين بيداغوجي أو تربوي (ظاهرة العقدويين وحملة الشهادات). وأما في التعليم الإعدادي، فإن المدرسة العليا للأساتذة لم تكون إلا 219 أستاذا في التخصصات العلمية على مدى ست سنوات بينما كانت الحاجة تدعو إلى تخريج 720 أستاذا. والأدهى والأمر من ذلك هو المستوى اللغوي للمدرسين الذي يبعث على القلق. فقد تم إخضاع عينة من الأساتذة والمعلمين لاختبار في اللغتين العربية والفرنسية وكانت نتائج الاختبار مقلقة حقا. بالنسبة للغة العربية فإن 14% فقط من المدرسين الذين أخضعوا للاختبار يمتلكون المستوى المطلوب لتدريس اللغة العربية، وأما اللغة الفرنسية فقد كانت النتائج كارثية حيث لم تتجاوز نسبة الذين يمتلكون المستوى المطلوب 04% من أولئك الذين أخضعوا للاختبار.
الصراع بين التعليم الخصوصي والعمومي
ولعل من أقوى المؤشرات اليوم على تدهور التعليم العمومي هو ما نلاحظه من نمو للتعليم الخصوصي. فقد بلغ عدد التلاميذ في العام 2017 في التعليم الخاص 158000 في المستوى الابتدائي و51000 في الإعدادي. وقد بلغت نسبة التلاميذ في القطاع الخاص 43% من مجموع التلاميذ في العاصمة نواكشوط. وهذه المعطيات هي من الخطورة بمكان، إذ ربما تشير إلى تشرذم النظام التعليمي وانقسامه إلى جسمين: التعليم الخاص ويرتاده أبناء المواطنين الميسورين، وتعليم عام لا يرتاده إلا أبناء الطبقات الفقيرة. ويستثنى من هذه الظاهرة جيوب متفرقة وهي التي تسمى مدارس الامتياز التي أثبتت ناجعتها لكنها بقيت محدودة المفعول بسبب قلة عددها وطاقتها الاستيعابية.
ومن مظاهر الاختلال الحاصل في التعليم العمومي ظاهرة نقص المعلمين في المدارس رغم وفرة عددهم في الواقع. ,أتذكر مرة أنني في إطار لجنة قيادة البرنامج الوطني لترقية قطاع التعليم قمنا بزيارة ميدانية للمؤسسات التعليمية في إحدى الولايات وكان من الأمور الغريبة التي لاحظنا أننا وقفنا على إعدادية حديثة البناء وتتوفر على كل المستلزمات بما فيها المخابر والمقاعد والماء والكهرباء لكن ينقصها شيء واحد وهو الطاقم التدريسي فجميع الذين يدرسون في تلك الإعدادية هم من حملة الشهادات الذي لم يخضعوا لأي تكوين بيداغوجي وسبب هذه الوضعية يكمن في عجز الحكامة الرشيدة لأن المنطقة معزولة ونائية وفي محيط غير جذاب وبالتالي فقد امتنع أساتذتها عن مزاولة عملهم وتم استبدالهم بآخرين لا يمتلكون الخبرة والكفاءة المطلوبة لكنهم يقبلون العمل في تلك الظروف غير المرضية بسبب الحاجة في حين سيتفرغ أولئك المعلمون الرسميون إن صح التعبير للعمل في مؤسسات التعليم الخصوصي أو مزاولة مهام أخرى.
فهل نتوقع من هذه المؤسسة ومثيلاتها أن تكون لنا شبابا قادرين على مواصلة مسارهم الدراسي والحصول على شهادات في تخصصات تستجيب لحاجة سوق العمل وتساهم في تنمية المجتمع؟