يشهد عالمنا اليوم موجة عارمة من عدم الاستقرار. وتتزامن هذه الوضعية مع ازمة شاملة فى المرجعيات الايديولوجية التقليدية. فاختفاء الصراع بين الشرق والغرب على اسس ايديولوجية مرجعيتها اشتراكية او رأسمالية فتح المجال واسعا للبحث عن بدائل عقائدية قابلة للاستمرار. وبما ان الطبيعة لا تتحمل الفراغ استغلت الفرصة تيارات تتظاهر بالحداثة وهى فى جوهرها قديمة ومحافظة الى درجة انها بعيدة عن ان تكون قادرة على تقديم حلول شافية للمشاكل المعقدة التى يواجهها العالم المعاصر. فلا تيارات الاسلام السياسى فى العالم الاسلامى بقادرة على ايجاد ابسط الحلول للمشاكل التى فى جوهرها تنموية والتى تعانى منها كافة الدول الاسلامية اليوم. ولا التنديد المشروع بتسلط احكام عشائرية فى معظمها يشكل حلا فى ذاته وتقديم بديل يختلف عن ما هو قائم من نظم متسلطة وظالمة.
وفى العالم الغربى تتزاحم مجموعات اقصى اليمين لملء الفراغ الناتج عن الفشل الشامل للأحزاب التقليدية التى ما فتئت تتعاقب على السلطة فى معظم الديمقراطيات الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فجميع المجموعات المتظاهرة بالتجديد تشترك فى ميزتين اساسيتين : اولا، الجرأة على التنديد بالنظم القائمة والعاجزة عن تذليل الصعوبات الجمة التى تعانى منها الشعوب .
وثانيا، أيمان هذه الشعوب بقدرتها على ايجاد حلول شاملة وشافية لجميع مشاكلها ومع غياب برامج ملموسة و قابلة للتنفيذ.
فثورات اوروبا الشرقية على النظم الاشتراكية فى بداية السبعينيات وثورات ما يسمى الربيع العربي فى بداية العقد الثانى من القرن الحالى وكذالك موجات الغيلان فى القارة الامريكية و التى جاءت بأغرب رئيس للولايات المتحدة. فكل هذا "اتسونامى" التغيير يبدو ان خلفيته واحدة : عالمنا الارضى يعيش اليوم فترة شك و تردد لا سابق لها.
والخطأ كل الخطأ ان نتبنى حلولا تقليدية مبسطة لمشاكل جد عميقة و جد معقدة.
والغريب ان الكثير من الناس يبدى تفهما سليما للأوضاع الراهنة فى العالم. ولكن ايضا من الغريب انه حتى الذين يدعون تفهم الاوضاع يتمادون فى تبنى حلول قديمة لمشاكل حديثة. ففى الوقت الذى انظار العالم معلقة بما يجرى من ثورات فى كل من الجزائر والسودان نجد الرئيس المصرى السيسى يرتب بكل سذاجة للحكم الابدى فى مصر. وإذا استمر فى التمادى فى هذا النهج فمن المنتظر ان يبدأ فى بناء هرمه الخاص.
والغريب كل الغرابة ان هذا الجينيرال المحنك يتجاهل فى الظاهر الموجة التى اتت به الى سدة الحكم. فموجات الثورة الشعبية المصرية الحديثة ادى الى وضعية فريدة من نوعها. فالخوف من جهة، من تسلط قوى اكثر ظلامية من النظام المصرى السابق والخوف من جهة اخرى، من الدفع ببلد من حجم مصر فى فوضى عارمة ، فهذان العاملان المرين دفعا بالشعب المصرى الى اللجوء الى عامل ثالث ربما يكون اقل مرارة من الاولين. ويتمثل ذالك فى التضحية بالحريات السياسية لمحاولة انقاذ الحريات الخاصة. ومع السيسى يخشى ان يفقد المصريين كل شيء.
ألا يتذكر السيسى انه فى السابق لم يتوقع احد موجة الربيع العربى وخصوصا الانتفاضة المصرية التى اوصلته هو الى السلطة. ولذا عليه هو ان يتساءل بناء على المقولة ان : " نفس الظروف تؤدى الى نفس ألنتيجة " ، ما هو الجديد فى الاوضاع المصرية يمنع من تكرار ثورة مصرية جديدة ربما اعمق وأكثر يقظة من ألسابقة ومن المحتمل ان تنسف بكل مخطاطه هو الصبيانية ؟
يقول الشاعر احمد عبد القادر : " إنما الحق ما اراد ألزمان ". ومن يدرى فى الحقيقة ما هى الخطوات التى سيفاجئنا بها الزمان : نحن والسيسى وآخرون...