اي قراءة بعين واحدة للمشهد الفلسطيني والعربي والاقليمي والدولي بعد 71 عاماً على قيام الكيان الصهيوني على ارض فلسطين تبقى قراءة مبتوره وناقصة وعاجزة عن فهم طبيعة التحولات التي يشهدها الصراع بين أمتنا وعدوها الصهيوني…
فمن جهة لا يستطيع اي قارئ موضوعي ان يتجاهل التداعيات الخطيرة والارتدادات الكبيرة التي اطلقها المشروع الصهيوني في المنطقة باسرها، مدعوماً من المعسكر الاستعماري بنسخه المتعددة، ومحتضنا من قوى محلية تعتقد ان اعداء امتنا يوفرون لها الامان في مواقعها اكثر مما تؤمنه لها شعوبها المتطلعة الى الحرية والكرامة والعدالة والوحدة.
وليس من المبالغة بشيء الاقرار بأن جذور العديد من الحروب والفتن والمؤامرات والانقسامات التي شهدتها امتنا تكمن في طبيعة المشروع الصهيو – استعماري وفي مطامعه في بلادنا من مشرقها الى مغربها… فحيثما هناك نار حروب تشتعل، وطبخة تقسيم تطبخ، ترى الاصابع الصهيونية والاستعمارية والادوات المحلية موجودة… والأمثلة على ذلك كثيرة ويومية ولا تحتاج الى تذكير….
لكن بالمقابل هناك مشهد مغاير، يسعى اعداء الأمة في الخارج والداخل، الى طمسه او تشويهه او شيطنته او التآمر عليه، مستفيدين دون شك من ثغرات موضوعية وذاتية في بنانا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لتحقيق اغراضهم…
واذا كان ممكنا اختصار ذلك المشهد المغاير بكلمة فهو مشهد المقاومة الممتدة على طول امتنا وعرضها، برايات متعددة، وتجارب متنوعة حتى امكن القول ان القرنين الفائتين، وبدايات القرن الحالي، كانوا زمناً لصراع لم يتوقف بين الامة واعدائها، وعصرا لمقاومة لم تلق سلاحها في كل أرض كان فيها محتل او مستعمر تحت هذا العنوان او ذاك…
واذا كان المجال لا يتسع للاشارة الى كل فصول المقاومة العربية والاسلامية التي شهدتها امتنا من خليجها الى المحيط منذ ان وطأت جيوش نابوليون ارض مصر في بدايات القرن التاسع عشر وتسمرّت امام اسوار عكا وصولا الى المقاومة العراقية التي اربكت “مشروع الشرق الاوسط الجديد” والمقاومة اللبنانية التي دفنته في حرب تموز 2006، والمقاومة الفلسطينية التي تصارع اليوم نسخته الاخيرة ممثلة بصفقة القرن مروراً بما شهدته مصر والسودان، ليبيا وتونس، المغرب والجزائر، اليمن والخليج، العراق وسوريا، لبنان والاردن وفلسطين، فلا بد من نظرة تقيمية سريعة لواقع الكيان الصهيوني نفسه، كقاعدة رئيسية لهذا المشروع المضاد، بعد 71 عاماً على قيامته إثر اغتصاب فلسطين…
فعلى الرغم من كل مظاهر التفوق البارز في الترسانة العسكرية الصهيونية على قوى المقاومة والمواجهة في الأمة، وعلى الرغم من الدعم غير المحدود له من دول الغرب وفي مقدمها الدولة الامريكية، وعلى الرغم من حال الضعف والعجز والهوان والتشرذم الطاغي على الواقع الرسمي العربي ، والمنعكس جزئياً على الواقع الشعبي العربي، إلا ان احدا لا يستطيع ان ينكر ان الركائز التي قام عليها هذا الكيان العنصري الاستيطاني التوسعي الاحلالي تهتز الواحدة تلو الآخر….
أول هذه الركائز المهتزة هي الامن الصهيوني الذي كان احد مصادر اعتزاز الصهاينة بكيانهم، واحد مصادر اجتذاب يهود العالم للهجرة اليه.
فالكيان الصهيوني لم يعد مهدداً في جنوبه بالمقاومة في غزة، وفي شماله بالمقاومة في جنوب لبنان وصولاً الى الجولان نفسه، وفي القلب منه القدس والضفة واراضي 48 فحسب، بل بات عاجزاً عن التخلص من هذه التهديدات المتصاعدة، ولعل في حروبه الفاشلة على لبنان وغزة اوضح دليل على ما نقول.
اما ثاني هذه الركائز وهو مرتبط بالركيزة الأولى، فهو واقع الهجرة حيث تشير كل الاحصاءات واستطلاعلات الرأي الى ان عدد الاسرائيليين الراغبين بمغادرة الكيان يتزايد، وعدد اليهود الراغبين بالقدوم اليه يتناقص، بينما تشير الاحصاءات ان عدد الفلسطينيين المقيمين في فلسطين التاريخية سيفوق عدد الاسرائيليين في وقت ليس ببعيد… وهو ما يطلق عليه بالقنبلة الديموغرافية…
الركزة الثالثة التي قام عليها هذا الكيان هي الدعم الدولي له منذ تأسيسه عام 1948، وهو دعم رسمي وشعبي عالمي، دعم عسكري وسياسي، اقتصادي واعلامي، بات يشكل مصدر قوة رئيسي لهذا الكيان….
فلم يعد خافيا على احد حجم الذعر الصهيوني من هذا التحول في الموقف الدولي تجاه الكيان الغاصب، والذي يعبّر عن نفسه باكثر من تصويت شهده مجلس الامن والجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح فلسطين ولغير صالح تل ابيب وحليفتها واشنطن…
ويعبر هذا التحول عن نفسه بهذا الحراك المتصاعد على المستوى الشعبي في دول الغرب تحديدا، والرافض للسياسات العدوانية والعنصرية للعدو الصهيوني، واتساع حملات المقاطعة لمنتجات هذا الكيان ومستعمراته بما يذكر بحملات المقاطعة لنظام الابارتايد العنصري في جنوب افريقيا قبل سقوطه…
وحتى في الولايات المتحدة الامريكية الحصن الحصين للكيان الصهيوني وشريان الحياة الرئيسي له، فان تحولا هاماً يحصل على صعيد الرأي العام الامريكي، سواء في الاعلام البديل او الجامعات، او حتى داخل الكونغرس، الى درجة ان كبريات مجموعات ” اللوبي الصهيوني” – الايباك – لم تواجه في تاريخها حصارات متزايدة كما تشهد هذه الايام، لا سيما بعد ان فتحت النائبة المنتخبة حديثاً في مجلس الممثلين قي الكونغرس الهان عمر ملف الرشاوى التي تدفعها الايباك لبعض اعضاء الكونغرس الامريكي.
حتى الجالية اليهودية في امريكا، وهي شديدة النفوذ والتأثير، بدأ العديد من اركانها، ولا سيما جيل الشباب فيها، يبدي اعتراضه، بشكل او بآخر، على هذا الالتحاق البشع من قبل ادارة بلاده في واشنطن بسياسات نتنياهو العنصرية، كما يبدي البعض حذره من تنامي حركة معاداة اليهود لهم في الولايات المتحدة نتيجة هذه “الذيلية ” الامريكية للنفوذ الصهيوني…
الركيزة الرابعة الاخذة بالاهتزاز ايضا هي ركيزة ايديولوجية ، حيث تقوم الايديولوجية الصهيونية اساسا على فكرة التوسع، وعلى ان حدود “اسرائيل الكبرى” تمتد من الفرات الى النيل الى درجة ان ديبلوماسياً مصرياً ذكر لي ان الصهاينة حريصون على ان يكون مقر سفارتهم في القاهرة غرب نهر النيل.. لأن الارض ، التي تقع شرق النيل هي ارض اسرائيلية ولا يجوز ان تقوم سفارة للكيان فيها…
هذه الثوابت الايديولوجية للحركة الصهيونية أُخترقت اولا بالانسحاب من سيناء، ومن جزء من الجولان، ومن جنوب لبنان، ومن غزة (اي من جزء من فلسطين التاريخية التي تعتبرها الحركة الصهيونية قاعدة مشروعها الايديولوجي).
ولم يكتف الصهاينة بالاندحار عن هذه الارض المحتلة بل عمدوا الى تفكيك مستعمراتهم فيها وهو أمر مناقض للايديولوجية التي ترى في هذه المستعمرات اساسا لوجود الكيان …
وبالاضافة الى هذا “التراجع” الايويولوجي الخطير عن العقيدة الصهيونية التوسيعية نلاحظ ايضا تنامياً في المأزق الصهيوني نتيجة تناقض متصاعد بين فكرة ” السوق الشرق اوسطية” المفتوحة التي دعا اليها بيريز في كتابه الشهير (الشرق الاوسط الجديد) الذي اصدره عقب حرب الخليج الأولى عام 1991، وعقب مؤتمر مدريد 1991، وعشية الاتفاقات المشؤومة في اوسلو ووادي عربة، وبين واقع بناء الجدران العازلة داخل فلسطين، وعلى تخوم غزة، وفي جنوب لبنان، بما يشير الى انتصار خيار “القلعة المغلقة” داخل الكيان بكل ما يعنيه ذلك من تناقض جذري مع العقيدة الصهيونية التوسعية.
الركيزة الخامسة التي يرتكز عليها هذا الكيان، وقد تكون الاخطر والأهم من كل الركائز الأخرى، هي الواقع العربي الرسمي بما فيه من تخاذل وتواطؤ وتطبيع، والواقع العربي الشعبي بما عليه وبما فيه من انقسام وتفتيت وقمع رسمي وقهر… وهذا الواقع هو ما اسميه دائما “بالقبضة الفولاذية” الحقيقية التي تحمي هذا الكيان…
لكن تل ابيب تدرك اكثر من غيرها ان هذا الواقع بتضاريسه الحالية يتجه الى التغييرـ بفعل التغييرات المتصاعدة على المستويات الاقليمية والدولية، والتبدلات المتسارعة في موازين القوى لغير صالح المعسكر الصهيو – استعماري، كما يتغير لصالح محور المقاومة الممتد من جنوب فلسطين الى جنوب لبنان الى سورية وايران وانتصار هذا المحور على العديد من المحاولات الرامية الى اخضاعه لا سيما في سورية، حيث يترنح المشروع الرامي الى اسقاط الدولة السورية التي شكلت وما تزال عقبة كأداء امام توسع المشروع المعادي للامة وما ينطوي عليه من مخططات واحلاف.
وطبعا كي لا نسارع الى الخروج باستنتناجات عجولة لا بد من التأكيد على ان هذا التراجع في قوة الاعداء لا يعني هزيمتهم الكاسحة، وان التقدم في قوة محور المقاومة لا يعني الانتصار الحاسم بل ان الامة كلها تعيش في “منزلة بين المنزلتين” وتحتاج الى جهود اكبر ووحدة امتن، وتضامن عربي واسلامي حقيقي، وخروج جدي من حال التشرذم والانقسام والتحريض الطائفي والمذهبي والعرقي…
فكلما اتجهت الامة نحو التضامن والتكامل والتعاون، وكلما اتجهت قواها وتياراتها واحزابها الملتزمة بمشروع نهوضها نحو عمل وحدوي مشترك، كلما اقتربنا من اسقاط المشروع المعادي للامة بكل تجلياته واخطرها الكيان الصهيوني ذاته الذي كما وصفه يوماً امين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في مثل هذه الايام من عام 2000 بعد اندحار المحتل عن جنوب لبنان :بأنه أوهن من بيت العنكبوت”..
فعلى الرغم من كل مظهر معاكس، فان ارتدادات النكسة بعد 71 عاماً ما زالت مستمرة، ولكن كيان العدو يشهد في فلسطين، وعلى مستوى الامة، اهتزازا وترنحاً لا بد ان يقود الى سقوطه ولو بعد حين.
كاتب عرب