أكتب لكم من مساحة" برزخية" بين الموت والحياة، بين عالم يحتضننى، وعالم يطردنى
الإحساس هنا لايمكن التعبير عنه، يمكنكم القول إننى فى" أرخبيل" من الحفر والنتوءات الصخرية المسننة،، تتقاذفنى أمواج عالم مهيب أراه قزحيا أمامى، وعالم قذر تركته خلفى
الصخرة التى عليها قدمى، أكثر انهيارا من اللتى أمسك بيدى
لاتصلنى أصوات رفاقى، هم أيضا هناك عالقون، حال بيننا موج من الغبار والأتربة، ومن حين لآخر تأتى أصوات كأنها الرعد، هي نذر لانهيار كتل الصخر والرمال
تأخذ الحياة هنا شكلا آخر، ولها طعم مختلف
نحن فى نقطة اللاعودة، فى منتصف قاع الكهف، تطالعنا من حين لآخر أطياف بديعة لأشخاص بلاملامح، كانهم يودعوننا، نسير إلى القاع دون التفات إلى الخلف
فى هذه النقطة ضاعت الفوارق بين الموت والحياة، واختلط الالم بالأمل، واختلط حابل "البشر" بنابل "الحجر"
تبدو الضفاف هناك باردة مهيبة، خلافا للقيظ خارج الكهف، نحن نسير تماما نحو الغيم الأبيض
الهدوء يمشى الهوينى، وكأنه يستفزنا، لنشعر به بين ذرات الغبار، وكتل الصخر
يفضل الظلام أن يركن نفسه أمامنا، مع أن بريقا خافتا يلوح لنا، لكنه ليس فى نهاية النفق
هنا بين صخرتين تتسابقان لتنقضا، لم تعد لدي أية ذاكرة، لا أعرف من أين جئت، ولا إلى أين أسير،
يتقلص شعورى بكل ماهو محيط بى، ويعلك الظلام البهيم كل ماكنته من ماض وحاضر
طريقة المشي لم أعد أميزها، كأننى مخلوق فضائي يسبح بين الصخور
ولكن لفسحة على هامش كل ما أنا فيه، دعونى أقول لكم شيئا يساعدكم على فهم هذه النهاية:
أنا شاب موريتاني فى حدود الأربعين تقريبا
أحمل من الشهادات أعلاها، ومن التخصصات أكثرها ندرة
كافحت مع أسرتى لكي أحصل على الشهادة، والآن أكافح وحدى و"شهادة" من نوع آخر تلفنى بجناحيها
كنا فقراء، وكافح أبى وأمى رحمهما الله، فبذلا كل شيئ من أجلى
ذقت الجوع والمرض، والغربة والمعاناة، فى سبيل التعلم
تقاذفتنى مدن الريح، ومدن الثلج، ومدن الشمس، ومدن اليباب، لأعود ومعى شهادة عاليا، معها ابتسامة لأمل كاذب، وطموح يائس
حاولت، طرقت كل باب، إلى أن جاء يوم عرفت فيه أنه لاوطن لى، ولا حق لى
اكتشفت أننى أعيش خارج وطنى الذى حلمت به، كافحت من أجله
قدمت ملفا لمؤسسة أجنبية، تريد اكتتاب شخص واحد، بشهادتى وتخصصى
حسب علمى كنت الوحيد يومها الذى لدي تلك الشهادة، وذلك التخصص
تقدمت للامتحان، وفعلا أخبرنى أحد المشرفين عليه أننى جدير بالمنصب حتى دون امتحان، فليس هناك من ينافسنى
بعد أيام دعيت لإجراء الامتحان مع شخصين لا أعرفهما، ولم أسمع فى حياتى بوجودهما، ولا بوجود جامعتين ادعيا أنهما تخرجا منها
المهم صدرت النتائج فنجحا ،وبقيت أحمل نقطة استفهام بحجم خريطة وطني
قيل لى لاحقا إنهما نافذان، أما أحدهما فابن ضابط كبير، واما الآخر فابن رجل أعمال نافذ، وأما الشهادتان فمزورتان قبل الامتحان بأقل من شهر
أظلمت الدنيا فى عينى، وبصقت قيحا فى وجه وطنى، ومسحت عرق السنين كلها بنسخ شهاداتى وتاريخى كله، ورميت كل ذلك ليذهب مع الريح، وأنا أيضا ذهبت مع الريح
من تلك اللحظة تحولت نظرتى للوطن، والحياة، والعلم، والمستقبل
عشت حزينا منطويا على نفسى، أهرب من نظرات زوجتى المريضة، وأتوارى عن أطفالى، وأتحرج من رؤية أصدقائي، تنكرنى الطرقات، وتتنكر لى كل الدروب
مات أملى، وقبر طموحى،وصلت درجة يأس وإحباط تشبه المرض النفسي
قررت ذات لحظة موت أن أذهب إلى متاهات البحث عن الذهب، ولربما كان قرارا غريبا يستبطن ( من حيث لا أريد ولا أشعر ولا أتوقع ) انتحارا خفيا، ظاهره العودة للكفاح من أجل البقاء
لايهمكم كيف حصلت على جهاز كشف، ولا كيف اندمجت فى فريق من المعذبين بالفقر والفاقة والتهميش، ولكن يهمنى ان تعرفوا أننى فى الوقت الذى أموت فيه مطمورا بحجارة بئر التنقيب، بحثا عن غرام ذهب، عالق فى ألف غرام من حجارة، يكدس حكامنا ووكلاؤهم مابقي من الذهب بعد نهب المؤسسات الأجنبية الإستعمارية
نعم ذهب الأجانب والحكام بالذهب، وتركوا لنا آبارا من الغبار والوهم والحجارة، تردم زهرة شبابنا وتفرق بيننا وبين أهلنا وأحبتنا
فى مثل هذا المصير نكتشف كشباب موريتانيين أننا بلا وطن، لاحق لنا سوى فى الموت بطالة وتهميشا، لا نملك من حديد وطننا حتى ماترفع به الأنقاض عن جثثنا، ولا نملك من سمكه حتى زعنفة، ولا من نحاسه حتى قلامة ظفر، أما حظنا من ذهبه فهو حشرجة مكتومة تحت أكوام الحجارة
هل جنيت على نفسى عندما ولدت لأبوين من قبيلة صغيلر،ة فى أسفل الأهرام الاجتماعية والمادية والسياسية
ليس لدي قريب يشغل منصبا فى الدولة، أهم شخص فى قبيلتنا يمارس النقل بين المدن، ولا أدرى متى سيبتلعه حديد سيارته المتهالكة، على طريق موت رملي ربما كان معبدا ذات تاريخ
تلك ببساطة لمحة أحببت أن تعرفوها عنى، ولست إلا مثالا لعشرات شبابنا الذين يذهبون للموت فى هذه المهامه مطاردة لخيط دخان
الآن لم يعد بمقدورى تمييز هذا الأفق، عادت الأطياف الوادعة تشيعنى، فالرحلة ليست بها محطة عودة،
خلفى ركام حياة، ونضارة وشباب
هناك، ولا أعرف هل ذلك عند بوابة الكهف الأخير، أطياف أخرى تتراقص ملوحة
دموع، وطيور، وشمس ترفض التقاط أشعتها قبل المغيب
وجه أمى، وجه أبى، وتلك الباسمة هناك زوجتى( وباكية أخرى تهيج البواكيا) ، نعم عرفتها، وتلك طفلتى، وذاك صغيرى، ( من لى بطفلين من خلفى كأنهما/ زغب القطا إذ عدمن الماء والشجرا)
لاقبلة، لاضمة، لا وداع
كم أنا حزين، لأننى تركت زوجتى وأطفالى، لوطن بكل تلك القذارة
هو وطني، أحببته، وسأظل أحبه حتى خلف الضفاف، ولكن للأمانة، لم يفعل شيئا من أجلى، تصوروا حتى رافعة أنقاض ليست، هنا حتى عبوة أوكسجين ليست هنا
ليس هنا سوى الموت، والظلم، والبؤس، والركام الذى يقهر الرجال
مع ذلك ذافئة هي تربة بلادى
حنون حجارة وطنى
حميمي عناق ذرات غباره بمسامات جلدى
البساط الأبيض يلتف أمامى صقيلا، بلون الثلج، والأطياف الأخرى - مدى الكهف كله - تودعنى
الركام يحيط بى، ولاشيئ سوى الركام
وسلام على "دقيانوس" وعلى "الكلب" الذى لم يبسط ذراعيه هده المرة أمام "الكهف"