
هل يمكن للدولة أن تُحارب ظاهرةً هي جزءٌ من بنيتها الخفية؟ وهل تُخفي ضبطياتُ المخدرات المُتكررة حقيقةً أكثر إيلامًا: أن النخب الحاكمة تُدير لعبةً توازنيةً بين شرعيتها الهشة وقوة اقتصاد الظل؟ أسئلةٌ تفرض نفسها عند قراءة المشهد الموريتاني، حيث تتحول تجارة المخدرات من نشاط إجرامي إلى نظامٍ موازٍ يعيد تشكيل مفهوم السيادة نفسها.
في مايو 2025، لم تكن مصادرةُ كمياتٍ ضخمةٍ من حبوب الهلوسة بمنطقة المطار القديم سوى حلقةٍ في مسلسلٍ مألوف: عملياتٌ "نوعية" تُعلن عنها الأجهزة الأمنية بحماس، ثم تختفي تفاصيلها في متاهات الإفراجات والملفات المغلقة (ملف شبكة القمار التي يديرها le king نموذجا). إطلاق سراح 18 من 29 مشتبهاً بهم، وغياب أي ذكرٍ لـ"الرؤوس الكبرى"، لا يعكس فشلًا تقنيًا في التحقيقات، بل يكشف عن منطقٍ خفيٍّ يُشبه "البروباغندا الأمنية" – طقوسٌ تُعيد إنتاج شرعية الدولة، بينما تُدار الشبكات الإجرامية بعيداً عن مسرح الأضواء. هنا، لا تعود الجريمة عدواً تُحاربه الدولة، بل شريكاً صامتاً في لعبة السلطة. يتسائل أحدهم؟!
لكن كيف تنجح شبكاتٌ إجراميةٌ في بناء بنيةٍ لوجستيةٍ معقدةٍ – من التخزين إلى النقل عبر الحدود بين الولايات على الأقل – دون أن تكون محميةً بطبقةٍ من الحصانة السياسية؟ الواقع وفق البعض يُشير إلى أن التعقيدات ليست تقنيةً فحسب، بل هي انعكاسٌ لـ"عقدٍ غير مكتوب" بين النخب. فالدولة، التي يفترض أنها تحتكر العنف الشرعي، تتحول إلى وسيطٍ في صراع النفوذ بين تحالفات الاقتصاد الموازي. إنها "سيادة مُجزأة" – كما يصفها بعض المنظرين – حيث تُدار أجزاءٌ من الوطن عبر قوانينَ موازية، بينما تُحافظ المؤسسات الرسمية على وهم السيطرة.
الأكثر إثارةً هو التحول الاجتماعي لتجار المخدرات -أو الصنف بالدارجة المصرية ولك أن تتخيل دلالة ذلك - من "أعداء المجتمع" إلى رموزٍ تُحاكي شرعية الدولة نفسها. عبر تمويل المشاريع الخيرية وشراء المناصب، يتحول "لِمْعَلِّمْ" – وفق دلالة المعنى في الدارجة المصرية – إلى رمزٍ للعطاء في مجتمعٍ يعاني من غياب العدالة. هذه الظاهرة ليست مجرد انزياحٍ أخلاقي، بل هزيمةٌ رمزيةٌ للدولة: فـ"الهيبة" التي كانت حكراً على المؤسسات الرسمية تُستَلَبُ الآن بواسطة رجال الظل، الذين يقدمون أنفسهم كمُخلِّصين في واقعٍ تتهاوى فيه الخدمات العامة. فهل يصبح الاقتصاد غير المشروع بديلاً عن العقد الاجتماعي؟
في قلب هذه المعادلة، تطفو إشكالية "الدولة الكارتلية" – ذلك الوحش الهجين الذي تتحالف فيه النخب الحاكمة مع شبكات الجريمة (برلمان شبيكو) لضبط السوق السياسي. الأموال القذرة لا تُموّل الانتخابات فحسب، بل تُعيد هندسة المشهد القبلي عبر شراء الولاءات (قضية من يخلف في غرب إفريقيا)، مُحوِّلةً السياسة إلى سوقٍ للمصالح العابرة. لكن هذا التحالف الشيطاني يحمل بذور فنائه: فضعف الموارد الرسمية يجعل الدولة رهينةً لتمويل اقتصاد الظل، بينما يُعمِّق انهيار الشرعية من اختراق الجريمة للمؤسسات.
تحذرنا التجارب الإقليمية من مصيرٍ أكثر قتامة: فـ"الاحتواء المتبادل" بين الدولة والمافيا قد يتحول إلى احتضارٍ مشترك. موريتانيا، الغنية بموقعها الجيوستراتجي في الساحل، قد تتحول إلى "منصة لوجستية" للجريمة العابرة للحدود، حيث تذوب سيادتها في شبكاتٍ دوليةٍ تعيد تعريف مفهوم الحدود ذاتها. عندها، لن تعود الأسئلة عن "كفاءة الأجهزة الأمنية" ذات جدوى، بل سيصبح التحدي وجودياً: من يملك الحق في احتكار العنف؟ الدولة أم تحالفات الظل؟
المفارقة الكبرى تكمن في أن "الحلول" التقليدية – كتعزيز القمع الأمني أو الإصلاحات الشكلية – قد تُفاقم الأزمة. فاقتصاد الظل ليس عشوائياً، بل نظامٌ معقدٌ تتداخل فيه مصالح الفقراء مع النخب، والمحلي مع العالمي. لذلك، فإن أي إصلاح جذري يتطلب #جرأةً في تفكيك هذا التشابك: محاسبة النخب الحامية للشبكات، إعادة بناء العقد الاجتماعي عبر عدالة توزيعية حقيقية، وتحويل القضاء من أداةٍ طبقيةٍ إلى سلطةٍ مُستقلة #وذلك من خلال قانون يمنع إقالة القاضي أو تحويله مع التكفل به ومن يعول ماديا ومعنويا. #لكن هل تملك النخب الحاكمة الإرادة لقطع يدها اليسرى لحماية الجسد؟ أم أن شرعية الدولة ستظل رهينةً لاقتصاد الظل حتى آخر نفس؟
في النهاية، ليست القضية مجرد "حرب على المخدرات"، بل معركةٌ على مفهوم الدولة ذاتها. فما يحدث في موريتانيا هو مختبرٌ حيٌ لصراعٍ عالمي: فهل تستطيع الدول الهشة الحفاظ على سيادتها في عصرٍ تتحول فيه الجريمة المنظمة إلى قوةٍ عابرةٍ للحدود؟ الإجابة ليست في الكتب، بل في القدرة على مواجهة السؤال الأكثر إحراجاً: من يحكم فعلياً؟
الخليل المختار عبدالله