صناعة ثقافة الخوف والدمار/ نعيمة عبد المجيد

ثلاثاء, 11/17/2020 - 00:08

بعد اكتشاف أغلب البشر مؤخرًا أنهم مجرد «دمى» يتم تحريكها وفق الأهواء، في لعبة يتقنها الكبار، لم تبدو عليهم إمارات الدهشة، أو حتى الميل للثورة على ذاك الوضع؛ لأنهم صاروا على دراية بذلك بعد تيقنهم أن البساط يسحب من تحت أقدام البشر، ليس بلطف كما في السابق، ولكن بعنف. وعلى هذا، ينتهج الإنسان الحديث في عصر الازدهار الزائف الذي نشقى فيه، سياسة «عش يومك، ولا تفكر قدر الإمكان في المستقبل؛ لأنه بمجرد التفكير في ذاك المستقبل الضبابي تزداد حدة الشعور بالحزن وعدم الأمان. الإغراق في الذات صار هو السبيل للحصول على سعادة لحظية زائفة تنتهي بمجرد التفكير في جدواها.
لم يتفاجأ الإنسان بذاك الوضع؛ لأنه تم التمهيد له بمجموعة من المعلومات التي زُجَّت له وأُجبِر على تفهمها. ومن الوسائل الرئيسية لنشر تلك المعلومات، في إطار من الشفافية المقنعة، كانت وسائل الإعلام المرئية، وعلى رأسها الأفلام التي غالبًا ما يسهل على كافة الطبقات، على الرغم من اختلاف مستوياتهم العلمية والثقافية، فهم رسالتها وما تطرحه من مضمون. والرائع في تلك الأفلام أنه يتم تصنيفها كأفلام خيال علمي، لكنها في الواقع تطرح وقائع حتمية مستقبلية، وإن كانت تلك الأفلام تزيد من الشفافية، لكنها أيضًا تمهيد سافر لنشر ثقافة الخوف.
ففي عام 1993، اكتظت دور العرض بالمشاهدين لمتابعة الملابسات الخيالية التي يقدمها فيلم «المدمر» Demolition Man الذي تدور أحداثه حول شرطي يجازف بأي شيء من أجل تحقيق ما يراه يحقق العدالة، ويقضي على العناصر الإرهابية، لكنه لا يعي أنه يحدث فوضى وخرابا بتدميره لمرافق وإيذاء بشر خلال تأدية عمله. ولتقويم سلوكه العنيف، يتم تجميده حتى عام 2023 كفترة عقوبة تتم خلالها إعادة تأهيله. ومن الأفكار الأساسية التي يطرحها الفيلم، إخضاع البشرية لبرامج إعادة تأهيل قسرًا، لاجتثاث السلوك الهمجي واستبداله بآخر شديد التأدب والتحضر، يتمتع فيه الفرد بالعديد من الاستحقاقات والحريات، التي سببت حالة عامة من الرضا؛ لأن المتمتع بها يراها كثيرة. لكن بوضع الحريات والاستحقاقات على المحك، يتضح أنها مجرد عبارات طنانة ووسائل إلهاء زائفة حولت البشر إلى مسوخ آدمية أسيرة للتكنولوجيا، ولا تعي كيف تستخدم خاصية التفكير التي حباها بها الله؛ لأن سلوكها وتفكيرها صار ممنهجًا.
أما الفكرة الأهم التي يطرحها الفيلم، فهي حكم العالم من خلال منظومة من الخوف. وقد استبق الفيلم ما يحدث حاليًا وتنبأ بمصير العلاقات بين البشر خلال العقد المقبل. فمن الملاحظ أن الفيلم يطرح فكرة التباعد الاجتماعي التي لم تعد خيارًا، ولكن أمرًا واقعًا يحبذه البشر الذين ترسخ في أذهانهم همجية التقارب الجسدي بين البشر، لأنه السبيل لتخيلق ونشر الأمراض. فعالم الغد كما يطرحه الفيلم هو منظومة «الخوف» فيها هو أهم ركيزة للسيطرة على البشر وتهذيب السلوك. ولضمان عدم انحراف البشر عن الطريق المقرر لهم أن يطأوه، كان لابد من صنع نموذج حي لبث الخوف في قلب كل فرد، يهدد الاستقرار الذي ينعم به المجتمع. ومن ثمَّ أطلق سراح سجين فتَّاك بين هذا المجتمع الآمن. هذا السجين لم يتم تقويم سلوكه خلال فترة التجميد، ولكن على العكس، تم تطوير آلياته المدمرة لتتناسب والسبل الحديثة لإحداث الدمار في عالم المستقبل.

عالم المستقبل الضبابي يمكن سبر غوره، من خلال ترجمة الرسائل التي يتم بثها ضمنيًا؛ سواء في وسائل إعلام مرئي أو مصور وفي بعض الأحيان مكتوب. وكلما زادت دراية البشر بما سوف يحدث في المستقبل، استفحل لديهم الشعور بالخوف.

وبمضاهاة أحداث الفيلم الذي طرح في دور العرض في العقد الأخيرمن التسعينيات بما يحدث في عالمنا حاليًا، نجد أن الفيلم قد صور المستقبل بدقة شبه متناهية. وبدراسة أحد ركائز الفيلم، وهي سيطرة التباعد الاجتماعي، يلاحظ أن فيروس كورونا المستجد صار الطريقة الفعالة لتحقيق ذلك المأرب على النطاق العالمي عن اقتناع. فقد لوحظ مؤخرًا أن عادات المصافحة والعناق بين البشر صارت شبه معدومة ومذمومة. وبالنسبة لتعميم منظومة الأدب الجم والأخلاق الحميدة، فقد صارت بالفعل أمرًا واقعًا في العالم الغربي، وكذلك بدأت تشق طريقها في مجتمعاتنا العربية، وإن حدث ذلك بخطى بطيئة جدًا، مع ملاحظة تمركزها في طبقات اجتماعية معينة.
أما القضية الأساسية في الفيلم فهي صناعة ثقافة الخوف Culture of Fear وتطويرها كإطار اجتماعي لتسهيل التحكم في البشر، وقد أوضح ذلك القائد النازي هيرمان جورينج (1893 ـ 1946) عندما أكد أن نشر ثقافة من الخوف تجعل البشر يساندون قضايا أو حرباً هم في الأساس كارهين لها. ومن أقواله المأثورة في هذا المناح: «الناس راغبة عن الحرب، لكنهم يُدفعون لطاعة القائد. وذلك أمر يسير. كل ما يتوجب عليك فعله هو إخبارهم أنهم معرضون لهجوم، وفي الوقت نفسه يجب اعتبار دعاة السلام مفتقرين للوطنية، وموقفهم هذا يعرض البلاد للخطر. وهذا المبدأ فعال في كل بلد وأي بلد». ولا تنطبق هذه المقولة على عالم الساسة فقط، لكنها تتغلغل في جميع مناحي الحياة. فعلى سبيل المثال، فيروس كورونا الذي ضرب العالم في شكل جائحة مجهولة العواقب، ولا يمكن وجود علاج فعال لها، تم استغلاله لتقليص الحريات الممنوحة للأفراد بمحض إرادتهم تحت شعار «الخوف من عودة الجائحة». فالجائحة خطر حقيقي يتهدد العالم، لكنه أيضًا خطر مستحدث، وربما كان وليد المعامل.
وبالنسبة للخطر السياسي الذي يهدد العالم ويزيد من فرقته، يتمثل في الحوادث الإرهابية، وما ينجم عنها من إجراءات تحض شنّ حروب على الإرهاب. وظهر ذلك بشكل جلي في فترة التسعينيات. ومع الألفية الثالثة، ازدادت حدة الأعمال الإرهابية إلى أن صارت ممارسات بشعة يتم اقترافها ضد أفراد أو جماعات، لكن ملابساتها الوحشية تهدد أمن البشر أجمعين، كما حدث عندما استحدثت جماعة داعش التي ألهبت الأمن العالم بممارساتها الشديدة التطرف، وقتلها لأفراد وجماعات بطرق وحشية مبتكرة كمزيج بين الأفعال الهمجية بالماضي السحيق، والممارسات الوحشية في عالمنا المعاصر، مثلما حدث تماما في فيلم «المدمر» عندما قام الإرهابي القادم من الماضي من التجميد، مُدرَّباً على أحدث الأسلحة والوسائل، لإحداث أكبر قدر من الدمار والخوف.
عالم المستقبل الضبابي يمكن سبر غوره، من خلال ترجمة الرسائل التي يتم بثها ضمنيًا؛ سواء في وسائل إعلام مرئي أو مصور وفي بعض الأحيان مكتوب. وكلما زادت دراية البشر بما سوف يحدث في المستقبل، استفحل لديهم الشعور بالخوف. وهذا هو المطلوب؛ لحكم زمام السيطرة. نشر الذعر والخوف يسهل تحويل البشرية لدمى عديمة النفع تهددها المخاطر من كل الاتجاهات.
كاتبة مصرية