في موريتانيا لا توجد عبودية ,ولكن توجد آثار/محمد ولد سيدي

سبت, 06/13/2020 - 17:25

الصورة بحد ذاتها كلام، إلا أن تقرير قناة العربي عن واقع الإسترقاق في موريتانيا لم يعكس واقع المجتمع اليوم، وحتى الأمس ،ليس بتلك الصورة القاتمة التي خلفتها شعوب العالم قاطبة وراءها.
لا توجد أسواق للعبيد اليوم في موريتانيا كما كانت في زنجبار والقاهرة وعكاظ وجزيرة غورة بالسنغال منذ عهود خلت ، ولكن توجد أطلال، أو آثار، أو مخلفات للعبودية في كافة مكونات الشعب الموريتاني بما في ذلك لحراطين أنفسهم حيث مارس بعضهم الإسترقاق على بني عمومته، والمفارقة أن بعض التحررين مارس العبودية، شأنه في ذلك شأن التقدميون من الطبقة الأستقراطية !!!
وعندما نقول مكونات الشعب فإننا نقصد المكونات الزنجية، الى جانب البيظان ولحراطين أنفسهم، الذين عانوا أكثر من غيرهم من تهميش في الفترة الكولونيالية، وبعدها ب "عقدين " تقريبا حيث تم إلغاء العبودية أواخر السبعينات و صدرت سلسلة من القوانين والتشريعات المحرمة لأي شكل من أشكال العبودية وتشكلت حركات ومنظمات و محاكم لهذا الغرض، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على حرص الأنظمة المتعاقبة واللاحقة على توطيد الوحدة الوطنية و تقوية اللحمة الإجتماعية في وجه التأثيرات الخارجية .
وبما أن تقرير قناة العربي عن العبودية في موريتانيا جاء في ظرفية خاصة- ظرفية كورونا- فإنه على حكومة العهد، والتعهدات، التي وعدت بمزيد من الإصلاحات الإقتصادية والإجتماعية لمن ظلمهم التاريخ و همشتهم الأنظمة ك "لحراطين " مثلاً،أن تسارع في برامجها الإصلاحية من أجل التقارب بين المكونات ،وتحد من هوة التباعد الإجتماعي والطبقي ،فهل اختلفت سياسة حكومة التعهدات عن السياسة المتبعة في سالف الدهر تجاه الأرقاء السابقين ، وهل وقع تغيير مرئي مخالف للصورة التي يبعثها معارضو النظم السياسية في موريتانيا الى الدوائر الغربية؟؟؟
لقد لامسنا تغييراً في تشكلة حكومة ولد الشيخ الغزواني من حيث تمثيل لحراطين في الحكومة وهذه بادرة تذكر، ولكن إذا كان تقرير قناة العربي عن العبودية في موريتانيا لم يعط الصورة الحقيقية للداخل والخارج معاً، فإن التغييرات في القطاعات الوزارية لم تعط الصورة الحقيقية هي الأخرى، للداخل كما للخارج، وطغى عليها جنس واحد، ولون واحد رغم العامل الديمغرافي وارتفاع نسبة حملة الشهادات العليا ، لا أحب الحديث عن اللونية، ولكن القديم المعاد، المهيمن على مناصب القيادة والنفوذ والجاه والمال هو عنوان مابعد التشكلة الوزارية ،رغم وجود أفراد ليسوا بتلك الكثرة من ذوي البشرة السوداء شملتهم التعيينات في قطاعات شتى ومن أبرزهم المتحدث باسم وزارة الصحة المكلف بجديد كورونا ...
و محل الخطأ في صاعقة قناة العربي واللوحة السوداء التي رسمتها بريشة فنان ماهر في الديكور أن المصور لم يتطرق للمساواة في الخدمات العمومية كالعلاج في المراكز الصحية أو المساواة في التعليم أو الدراسة والتدريس والإمامة في دور العبادة ،كما لم يتطرق لولوج شخصيات كبرى لأعلى المناصب من العبيد السابقين في العصر الحديث من رئاسة الوزراء الى وسيط الجمهورية والسلطة التشريعية، وعليه فإذا كانت أم الديمقراطيات في العالم الولايات المتحدة الأمريكية " تشتعل " اليوم " بفعل " عنصري " فإنه يمكن القول أن العقل البشري بدا يراجع نفسه، ويتصالح مع ذاته ليس فقط في أقصى مجتمع المهاجرين الولايات المتحدة الأمريكية، بل في دول أوروبا الإمبريالية .
بعد مقتل جورج فلويد في 25 مايو سنة 2020م بدأت الشعوب الواعية في أوروبا تعيد كتابة تاريخها وكلما له علاقة بالعبودية من تماثيل وشوارع وصور وفكر وقبل حادثة مقتل جورج فلويد وجدت الحكومة الموريتانية في الإنتخابات الرئاسية الماضية سبيلاً في تصحيح الأخطاء ومراجعة السياسات التنموية والإجتماعية ولعل حكومة ولد الشيخ الغزواني قرأت النتائج المتوخاة من تلك الإنتخابات في مستوى تمثيل لحراطين الذين بدؤوا يشعرون بالألم والغبن حيث وجدوا في مرشح من ابن جلدتهم الأمل كما اتخذوا من وسائل التواصل الإجتماعي وسيلة للتبليغ والتعبير عن معاناتهم الى مختلف أصقاع الأرض.
خلاصة القول أننا على التماس من براكين مشتعلة الإرهاب والحروب في منطقة دول الساحل الإفريقي وصراعات وفتن وقلاقل في دول المغرب العربي والشرق الأوسط والمرحلة " الحالية تتطلب رص الصفوف أكثر من أي وقت، مع العمل المثمر، وتصحيح مايمكن تصحيحه، لذا لا توجد عبودية في موريتانيا، ولكن توجد أطلال، وآثار لها، ومحو تلك الآثار ليس ب تجمعات ينخرها الفقر، أو نقطة صحية، أو حفر بئر، أو بناء مدرسة،بل ، بالمدرسة الجمهورية والإعانات الإجتماعية ومخططات تحفيزية والإستثمار في العقل البشري و التمييز الإيجابي في المناصب السامية وامتحانات التوظيف، فلا يمكن أن نحجب الشمس بغربال لحراطين متأخروج جداًّجدًّا عن بقية المكونات الأخرى التي مارست الإسترقاق منذ أمد طويل والعلاج الأنجع يكمن في مسألتين اثنتين، التحسن الأقتصادي و إرتفاع نسبة المتعلمين في البلد والقطيعة التامة مع كل ماله علاقة وكل مايمكن أن يترجم على أنه استرقاق، وحالة واحدة أكتشفت في هذا الصدد قد تنسف كل الإصلاحات التي قيم بها ،وهنا كانت الإثنى عشر حالة التي اكتشفها رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في جولة له بالمناطق الشرقية نهاية السنة الماضية دعامة لما يشاع ويثلج الصدور..
الصورة الحالكة التي رسمتها قناة العربي عن مكونة وازنة من الشعب يجب على الدوائر الحكومية أن تأخذ منها العبرة في الترقيات والتمثيل حتى يعكس الإعلام الصورة الحقيقية للواقع الجيو سياسي وإجتماعي للعالم، فالصور الأمامية في أي نشاط رسمي، ملتقى، أو ندوة، أو حفل ،أو زيارة، لا تعكس التنوع الثقافي والإجتماعي للبلد في قنواتنا الفضائية .
مرة أخرى، لا توجد عبودية في موريتانيا ممارسة بشكل ممنهج كما كان سابقاً، ولكن، توجد مخلفات يمكن القضاء عليها، بالعلم والمعرفة والعمل الجاد ،وتكافؤ الفرص في التوظيف وتوزيع البرامج التنموية، فالواقع لابد أن يتغير، وتغييره ليس بالشعارات، و سن التشريعات المجرمة للممارسات التي عفا عليها الزمن، وعلى حكومة التعهدات أن تدرك إدراكاً لا لبس فيه أن دول العالم بدأت ترمم بيتها الداخلي وتخطط لمستقبل أفضل بعد صاعقتي كوفيد 19 التي أثبتت ضعف المنظومة الصحية في العالم قاطبة و مقتل جورج فلويد بالولايات المتحدة الأمريكية وما عقبه من ثورات و مظاهرات إصلاحاتية في الغرب الإستعماري تنتصر للعدالة بين بني البشر من لندن الى باريس، وروما وبرلين ومدريد ولشبون.
إن مسايرة الركب أمر حتمي تفرضه الظروف السياسية والإجتماعية والدولية، ولا بد لحكومة اتخذت من العهد " شعاراً، أن تسلك المسار الصحيح وبالتالي فإن مخلفات العبودية لا بد لها من إستراتيجية أكثر جدوائية من ذي قبل، كما أن العبودية في موريتانيا، أو العنصرية، لم تبلغ مستوى جنوب إفريقيا في عهد لابارتيد، فالكل يجلس في مكان واحد، ويؤدي شعائره في مكان واحد، ولا توجد مدن للبيض وأخرى للأسياد، ولامدارس أو مشافي لجنس دون آخر ، وبالتالي فإنه يمكن القول أن المجتمع الموريتاني شهد ثورة في مستوى التفكير وتطور العقليات في تاريخنا المعاصر، فلم يعد ترأس حرطاني للسلطة التشريعية، أو رئاسة حكومة، أو إمامة مسجد، أو وزير، أو إدارة وطنية، أو سفير ، يلفت الإنتباه ...
لا توجد عبودية في موريتانيا، ولكن....توجد مخلفات ستزول عاجلاً،إذاما وجدت الإرادة الحقيقية، ويقيني أنها ستوجد ،والمحافظة على الموروث المؤلم ضرب من الخيال...
موريتانيا متصالحة مع ذاتها- تجمعنا