وأتقوا ألسنة الشعراء - محمدو ولد الشدو

سبت, 11/09/2019 - 14:22

... وبعد تعريفنا الموجز آنفا لـ"الشّعّار" والشعراء معا، ومكانتهم السامية في المجتمع الموريتاني، ودورهم الاجتماعي العظيم، وأياديهم البيضاء، يجدر بنا هنا أن نتطرق إلى موقف "الأخوين" (الدين والمروءة) منهم، والذي هو إجماعا وجوب إكرامهم واحترامهم واتقاء ألسنتهم؛ وذلك عملا بالآية الكريمة المتعلقة بوجوب حفظ الكليات وبالإحسان: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأكمل مكارم الأخلاق» و"اتقوا ألسنة الشعراء".

وسنعطي على ذلك أمثلة بليغة من تراثنا الثقافي العربي والإسلامي المجيد فيما يلي:

* استحوذ الشيطان على كعب بن زهير بن أبي سُلمى (وهو شاعر فحل وابن شاعر فحل) فهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدر المسلمون دمه. فلما اشتد عليه الحصار وضاقت الأرض بما رحبت، دخل المدينة متنكرا بإيعاز من أخيه المسلم بجير، وتسلل سرا حتى وصل إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكشف عن هويته وأنشد في الرسول - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه - رضي الله عنهم- قصيدته العصماء المشهورة "بانت سعاد" التي يقول فيها:

إن الرسول لسيف يستضاء بـــه ** مهند من سيـــوف الله مســـــلول

في فتية من قريش قال قائلــــهم ** ببطن مكة لما أسلــــــموا: زولوا

زالوا فما زال أنكاس ولا كُشُفٌ ** عند اللــــقاء ولا مـــــيل معازيل

لا يقع الطعن إلا في نحورهـــمُ ** وما لهم عن حياض الموت تهليل

فما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلا أن خلع عليه بردته وأجاره وعفا عنه وأكرم وفادته. ولنا، معشر المسلمين، في رسول الله أسوة حسنة.

 

* وكان حسان بن ثابت الأنصاري فحلا من فحول شعراء الجاهلية، وشاعر الغساسنة الأول بعد النابغة، وفيهم يقول رائعته التي منها:

إن التي ناولْتَـــني فــــــرددتها ** قُتِلَتْ، قُتِلْتَ، فهاتها لم تُقـــتل

كلتاهما حلب العصير فعاطني ** بزجــاجة أرخاهما للمــــفصل

لله در عـــصابة نادمتــــــــهم ** يوما بجـلق في الزمـان الأول

يُغشون حتى ما تهر كلابــهم ** لا يسألون عن السواد المقــبل

بيض الوجوه كريمة أحسابهم ** شم الأنوف من الطراز الأول

الملحقون فقيرهم بغنيهم ** المشفقون على الضعيف المرمل.

وقد أسلم في نهاية المطاف، وامتشق بيانه دفاعا عن الإسلام ورسوله الأعظم الذي دعا له بالنصر. وذات يوم جاء هذا الشاعر العظيم إلى المسجد مسبوقا فأتم ما فاته من الصلاة بصورة لم يُرْضِ حيدرةَ خشوعُها - وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم- فقال للشاعر: "نقرتها يا حسان" فقال له حسان فورا: "لو نقرها أبوك ما دخل النار". وكانت - وما تزال- سبة الكفر أشنع السباب عند المسلمين. فاستل علي رضي الله عنه سيفه ونهض وقد بلغت كلمات حسان منه كل مبلغ. وعندها وضع الرسول عليه صلوات الله وسلامه يده الشريفة على كتف علي فهدأ كعادته، وقال: "اتقوا ألسنة الشعراء".

       وفي عهد الخليفة عمر رضي الله عنه - وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم هو الآخر- حمل بريد الشام هدية من أمير الغساسنة المرتد عن الإسلام واللاجئ لدى الروم في القسطنطينية، جبلة بن الأيهم، مرسلة مع الاعتذار عن التقصير إلى حسان؛ وكان حسان في خريف عمره ومكفوف البصر. فأرسل إليه عمر رضي الله عنه، فلما حضر قال: إني لأشم رائحة الغساسنة. فقال له الخليفة: صدقت وسلمه هدية جبلة بن الأيهم، فأنشد حسان قائلا:

إن ابن جفنة من بقية معــــشر ** لم تغـــذهم آباؤهم باللوم

يعطي الجزيل ولا يراه عنـده ** إلا كبــعض عطية المذموم

لم ينسني بالشام إذ هو ربــها ** كلا ولا متــنصرا بالــروم.

وما كان يُعقل أن يتصرف الخليفة عمر - حارس الملة والدولة- بهذه الطريقة التي هي منتهى التسامح مع غير حسان، فيقبل وصول عطايا أعداء الدين والدولة إلى فرد في يثرب يشيد علنا بالمرتدين ويمدحهم أمامه، لو لم يكن الأمر يتعلق بشاعر، وشاعر مثل حسان.

* وفي عهد الخليفة الصالح الزاهد عمر الثاني ابن عبد العزيز، كان أحد قضاته العدول كلما فرغ من عمله الشاق وأعطى كل ذي حق حقه، عاد إلى منزله فتغدى وأمر جاريته المغنية بأن تعزف له وتغني لحنا يخفف ما به من نكد القضاء؛ فتأخذ الجارية عودها وتغني لحنا من روائع الغزل أو النسيب، فيغمى على القاضي فيمشي على أربع ويقول: أنا حمار فخذوني إلى السوق. وقد علم عمر بالأمر فلم يُكَفّر القاضي ولا الجارية؛ بل اكتفى بعزل القاضي الذي لم يزل يراجعه في الأمر حتى قَبِلَ سماع حجته ليكون قراره عن بينة وبصيرة. وأحضر القاضي الجارية فغنت له ولعمر - من وراء حجاب- قول مضاض  بن عمرو الجرهمي:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنـــيس ولــم يســـمر بمكة سامر

بلى نـــحــن كـــنا أهلـــــــها فأبادنا ** صروف الليالي والجدود العواثر.

فأغمي على عمر. ولما أفاق أعاد القاضي إلى منصبه.

* ومثله في التسامح والفضل والإحسان والوفاء وتقدير الشعر والشعراء والأدب والغناء قصة الإمام الأعظم أبي حنيفة المشهورة مع الإسكافي؛ وملخصها أن إسكافيا كان يسكن بجوار الإمام أبي حنيفة، وكان إذا أنهى عمله اليومي الشاق تجمّع حوله أصحابه وأخذوا يعاقرون الخمر حتى يحسبون الليل نهارا والجون أشقر، فيأخذ الإسكافي يغني ويردد بيت العرجي:

"أضاعوني وأي فتى أضاعوا ** ليوم كريهة وسِداد ثغر".

حتى ينبلج الصباح؛ تماما مثلما كان باهي محمد - رحمه الله- يغني ويردد طول الليل في باريس يائية مالك بن الريب وهو غريب مثله وأسير، أو كما يبيت اسليمان بن بيات يعزف نايه الشجي حتى الصباح، وهو يعتقد جازما أن أنات نايه الحزينة هي التي تبدد جحافل الظلام وتصنع خيوط الفجر! وذات ليلة فقد الإمام صوت جاره المشاغب فسأل عنه، فقيل له إن الشرطة قد اعتقلته، فلما أصبح توجه إلى ولي الأمر الذي لا يرد له طلبا، يلتمس إطلاق سراح جاره الإسكافي، وذهب بنفسه إلى مخفر الشرطة ليأخذه ويعود به إلى بيته، وهنالك سأله: هل أضعناك يا فتى؟ فأجاب الفتى وهو في غاية التأثر والعرفان: لا والله أيها الشيخ، وتاب من بعدها وأصلح.