غربة الوطن في الوطن- محمد صلاحات

أحد, 07/21/2019 - 22:14

إن مشكلة المثقف العربي هي من اعقد واشد المشاكل التي تعانيها مجتمعاتنا فهي من أعمق المشكلات التي تكشف عن أزمة تكوين المثقف، وأزمة تشكيل الفكر والثقافة والعقل في العالم العربي. وقد أظهرت هذه المشكلة غربة المثقف عن الشارع المتعطش للثقافة البناءة الحديثة بعد مرحلة من الغزو الضخم للثقافة الرأسمالية للشارع العربي, واستطاع الفكر والثقافة الرأسمالية أن تصل للمواطن العربي على شكل الطعام والشراب والدواء وأدوات التسلية والترفيه فتشربها حتى إرتوى منها وهي من أفدح ما أصابه في بنيته الفكرية والثقافية ـ الغربة التي تفسر ما يعبر به عن غربة المواطن بالوطن أو غربة المثقف عن المواطنين والشارع والوطن. وبسهولة كبيرة نكتشف، من خلال شريحة واسعة من الناس، جهلهم العميق وقلة إيمانها بما يمكن أن يحدثه قليلا من مساحة حرية تهدى للمثقف وقلمه حتى يستطيع أن يقف بوجه أي مد فكري أو ثقافي معادي, ولكن في ظل أنظمة مثل أنظمتنا التي تختزل أي مساحة حرية ممكنة كان لا بد من صعود المثقف المزيف المدعوم من الأنظمة على الساحة كبديل للمثقف الحقيقي وبدأ المثقفون المزيفون بتحليل الواقع ونشر الثقافة التي ترضي الأنظمة القائمة ولا تخرج عن نصوص استخباراتها وبدأوا يتحدثون عن هموم المواطن واحتياجاته ويحللون الواقع ويعطون رأيهم في مسائله وقضاياه.
ومن هنا وقعنا بما يسمى غربة حقيقية للمثقف الحقيقي وغربة مصطنعة للمثقف المصطنع,
فالغربة الأولى هي غربة المثقف الحقيقي عن الشارع والمثقفين الآخرين وعن هموم الوطن والمواطن وتحليل مشاكله وقضاياه وطرح الحداثة البناءة, ومشكلة مصطنعة هي قيام من لا يعي المشكلة والواقع بتحليله لصالحه وتأويله لما يخدم به النظام.
فمثل هذا المسمى المثقف الانتهازي النظامي يتميز بميزة الغربة عن الشارع لأنه لم يعشه ولم يعيش همومه وآفاقه وقضاياه فلذلك نجده يحاول أن يقف بوجه أي محاولة أو فكرة ويسميها بالغريبة تحاول اجتياح الثقافة العربية فيكون جاهلا حقيقيا يتحدث بأمور الناس.
هذا الجهل لا يُبرر لهم ولا يُغتفر للمكانة الكبيرة التي احتلها المثقف المزيف في واقعنا الراهن، لا سيما وأن المثقف الحقيقي هو الذي صنع هذه الأمة وأكسبها شخصية متميزة ومستقلة، وان الفكر الذي يحمل ولا يزال يحارب لأجله مثقفينا هو الذي جمعنا ووضع أساس نهضتنا بعد أن كانت مجموعة من القبائل المتفرقة والمتنازعة، وشكل لها حضارة و تاريخ وسار المثقفين والمفكرين بهذه الشعوب العربية إلى أن أوصلوها إلى إنجازاتها الحضارية في مجالات مختلفة من العلوم الأساسية والمتقدمة، وارتقت بالقيم والآداب والفضائل الإنسانية فكانت هذه القيم أكثر ما تميزت به من بين الحضارات الأخرى. هذا المثقف العربي الذي غدا غريبا عن بيئته يحاول اليوم أن ينقذ هذه الحضارة والفكر من مستنقعات العولمة من ناحية ومن التخلف الفكري والغزو الفكري من ناحية أخرى, إلا أن وقوف الأنظمة الرجعية الرأسمالية بوجهه وابتعاد المواطن العادي عنه جعله يذوق طعم الغربة في داخل الوطن وغدا مجرد عاطل عن العمل في مقهى الفكر يلعب النرد.
إن الشعوب العربية التي صنعت في فترة من فترات التاريخ أعظم تحول حضاري في تاريخ العالم والحضارة الإنسانية بفضل علمائها ومثقفيها ومفكريها تعاني اليوم مسافة شتات بين الحضارة وبين الشعوب والأسباب التي يدعي البعض أنها مجهولة, إلا أن الحقيقة أن الأسباب واضحة كعين شمس في النهار
فمن ابرز أسباب غربة المثقف التي منعت تفاعل المواطن العربي مع مثقفه تعود لأقسام عدة, قسم منها يتعلق في الفرد العربي نفسه وقسم أخر يتعلق في المثقف ذاته وقسم أخر يتعلق في النظام والظروف المحيطة
1)الفرد العربي يعاني عقدة الخوف من النظام القائم وخوفه المستمر شكل له عقدة تبلورت في داخل الأسرة العربية التي بدأت في نمط تربية غريب عجيب بدا في محاولة صد الفرد عن الاقتراب من الكتاب والفكر وأبقته أسيرا لمعتقدات سائدة وثقافات دخيلة
2) ما تسمم به عقل المواطن العربي عبر السموم المبثوث في داخل المناهج الدراسية التي يدرسها كل فرد عربي منذ بداية نشأته حتى أن يصبح مواطنا فاعلا في المجتمع, مثل هذه الأفكار المسمومة صارت أعرافا وثقافات لا يجوز الخروج عنها وصنعت مواطن مذعن للنظام وللخرافات والأساطير.
3) تشرب المواطن العربي للعديد من الثقافات الدخيلة عليه عبر طعامه وشرابه ولباسه وأساليب تسليته وترفيهه
4) السموم التي تدخل كل بيت عربي عبر الفضائيات ووسائل الإعلام التي زادت من التفكك الأسري والانحطاط الأخلاقي والفكري والثقافي, فمعدل القنوات الفضائية الثقافية إلى جانب القنوات التي تبث الثقافة الفاسدة يعدو 1% وربما اقل وحتى إن وجدت محطة ثقافية نجدها موجهة بشكل يخدم طرف ما أو نظام ما.
5)وما يتعلق بالمثقف العربي ذاته الذي أيضا تأثر من ناحية بعقدة الخوف وصار قلمه يرجف ألف مرة في يده قبل أن يتجرا على كتابة كلمة نقد صادقة موجهة.
6) عدم ثقة المثقف العربي أو البعض منه بأدبه وتراثه وفكره وسوء انتقائه للثقافة أو سوء فهمها وعدم قدرة البعض على التحليل الواعي والمنطقي وتبسيط المواضيع الهادفة للجمهور الذي غدا يعيش اغتراب الفكر والثقافة ويشتكي من صعوبتها وتقبلها مقارنة بالأفكار السوداوية التي تغزوه
7) المساحة المتاحة من قبل الأنظمة, والممارسات القمعية من قبل الأنظمة تجاه من يقول لا ومن ينتقد مصالحها وعلاقاتها المشبوهة ومطالبات بالديمقراطية الحقيقية والانفتاح السياسي
8) الانغلاق العميق الذي تعيشه الشعوب العربية عبر سنوات نتيجة لسيطرة وظلم وديكتاتورية الأنظمة
9) محاولات الأنظمة في إخلال الثقة بين المثقف والقارئ العربي
10) إبراز الأنظمة لكتاب ومثقفين لها احتلوا ساحات الثقافة الكاذبة بديلا عن المثقف الحقيقي
11)عدم قدرة المواطن العربي على التمييز بين الفكر الحديث كالعلمانية الحرة وبين الأفكار الرأسمالية التي تغزوه لتحقق هدفها في الاستعمار الفكري عليه
12) عدم قدرة المثقف على تقديم الأفكار البناءة والهادفة التي تخدم المواطن للمواطن نفسه مبسطة حتى يستطيع الأخذ فيها والتقرب منها
ومن هنا وبأسباب عديدة أخرى شكلت سبب الغربة الحقيقية بين المثقف وبين القارئ وبين من بحاجة للثقافة والفكر فصار المواطن مجرد من أي ثقافة حقيقية وغدا المثقف أسيرا غريبا عاطل عن العمل.
بين المثقفين في العالم العربي وغيرهم من المثقفين بالعالم فرق شاسع وواسع غدا ببعض المثقفين بالهجرة والرحيل بحثا عن حبيبات من الحرية ينشر إنتاجه خلالها. وكذلك الجهل الذي يقابله انفتاح إطلاع واسع على الفكر الأوروبي الرأسمالي في مرجعياته الفلسفية والأدبية والاقتصادية والسياسية، وهي حقيقة من الصعب أن يخفيها المثقف العربي عن نفسه.
وقد تركت مشكلة وأزمة المثقف مع النظام تداعيات حساسة وحادة في علاقته بالناس، حين أخذ الأخر يثير الشكوك تجاهه، مثل أن المثقف الداعي للحداثة هو مثقف يعبر عن أفكار ومفاهيم تصطدم بشكل صريح الناس من ناحية ومع معتقداتهم من ناحية أخرى، الأمر الذي تسبب في قطيعة عميقة ومستعصية بينه وبين الناس، أفقدته مكانته وتأثيره وحضوره، لهذا فالمثقف في العالم العربي لا يحظى بتأثير مهم على الناس ولا وزن حقيقياً له بينهم.
وهي المشكلة التي كرّست عزلة المثقف، وأجهضت مشروعه في التغيير الثقافي، وعطلت أهم أدواره في الحقل الاجتماعي، وهي ليست مشكلة المثقف ولا مشكلة الناس، بل مشكلة الظروف المحيطة والفكر الدخيل الذي غزا المجتمعات العربية ومشكلة الرأسمالية الإمبريالية التي لم تكتفي بالاستعمار الاقتصادي للشعوب العربية بل تعدته إلى الاستعمار الثقافي والفكري الذي فتح على الناس هذه المشكلة وفجرها في الساحة.
ولقد بقيت نظرة المثقف مشوشة وملتبسة تجاه الفكر الدخيل، مع ما لديه من خبرة في التعامل مع أدوات المعرفة وتقنيات البحث ومناهج التفكير، ومع ذلك تجد من المثقفين مَن يخلط بين المشكلة والحلول والبدائل في الحلول، ويصل الخلط عند البعض حد اليأس الحقيقي فتشل من قدراته وإبداعه.
كذلك دخول مصطلحات جديدة للثقافة ومستجدات العالم كالعولمة وغيرها أفقدت بعض المثقفين القدرة على التوفيق بينها وبين التراث الذي يرفضه الناس التخلي عنه وقدرة المثقف على تحويلها من نقمة لنعمة.
فيقع المثقف العربي في معضلات منها انه يريد فرض الفكر الحر بالقوة فتجد الناس تنفر عنه والأخر من حاول الدمج بين النقائض مثل العلمانية والدين ومحاولة تدليس الأمر ليبدو مقبولا بدلا من البدء بثورة ثقافية جادة للتخلص من المعتقدات الأسطورية السابقة من خلال حقل الميثولوجيا الذي شهد اهتماماً واسعاً في الفترات الأخيرة، وزُجّ به في ميادين الفلسفة والثقافة والأدب والعلوم الإنسانية ... وهناك من المثقفين مَن حاول أن يسقط على قراءته للدين تجربة أوروبا مع المسيحية والكنيسة، وهي التجربة الماثلة أمام المثقف العربي والذي أشبع إطلاعا عليها، وخلق منها أبرز إشكالاته المفهومية، التي منها إشكاليات العلم والدين، التقدم والدين، الحداثة والدين، العلمانية والدين، الدولة والدين، السياسة والدين... إلخ. وقد ظلت هذه الإشكاليات يعاد إنتاجها بفهم ملتبس وبرؤية مشوشة إلى هذا الوقت، ولا زال المثقف محكوماً بقدر كبير بإطار التفكير المتحرر وبالتجربة الواقعية ويقابله الناس بالرفض للتخلي عن مواريث أسطورية تشربها الناس عبر ما ذكر سابقا من وسائل أهمها كان المناهج المدرسية الموجهة لإسقاط العقل العربي في متاهات الأساطير، الأمر الذي لا يسمح له إلا أن يكون رؤية ملتبسة وجدلية تجاه الدين مثلا بدل أن يقوم بثورة حقيقية تستبدل الفكر المتخلف الرجعي بفكر راقي منقح يستمد أصوله من الثقافة العربية والفكر الحر, ومحاولة التوفيق الحقيقي وليس المزيف المدلس.
هذه الكبوة الثقافية الفكرية بحاجة لثورة حقيقية يقف فيها المثقف العربي في الصفوف الأولى من المعركة بوجه الأنظمة وبوجه الثقافات الأسطورية من ناحية ومن ناحية أخرى الثقافات الرأسمالية الدخيلة ويعلن الحرب على مصراعيها على كل ما هو ضد مصلحة الناس وهي لا تعيه ومحاولة إقناع الناس بالحديث الجاد المفيد بدلا من التشرب الثقافي الرأسمالي الذي يؤدي إلى محو الهوية والفكر ويؤدي للهلاك.
ومن النماذج أيضاً في علاقة المثقف بالمشاكل الثقافية وتعامله مع الثقافة البناءة، نموذج المثقف الذي حاول أن يعمل بمنهج الباحث الأكاديمي في قراءته الثقافة البنائية، فتعامل معها كظاهرة اجتماعية، أو فكرية، أو تاريخية، أو مركبة من هذه الأبعاد وأبعاد أخرى، كما يتعامل مع أي ظاهرة بشرية، حيث يجري عليها طرائق التوصيف والتفسير والتحليل والتفكيك والتركيب والنقد إلى غير ذلك من طرائق ومناهج. فالثقافة الحقيقية، حسب هذا المنهج، تمثل أحد الظواهر التي نشأت في الماضي وتركت أثراً نوعياً على حياة الناس في اتجاهات تفكيرهم، وأنماط علاقاتهم، ونظام القيم
إن مشكلة المثقف تكمن في عدم تواضعه من ناحية وعدم فهمه للناس من ناحية أخرى، فهو لا يتعامل معه المواطن بإيمان والتزام، لهذا من الصعب عليه أن يفهمه في جوهره وحقيقته ومقاصده وغاياته. وكذلك عدم إيمانه في بعض الأحيان في الثقافة البناءة, فهي لم يأت لكي يمارس المثقف عليها فرديته ويحولها إلى رأي يتميز به أو يعرف به، بل جاءت لكي تكون الثقافة البناءة التي يلتزم به الإنسان وتحدد طريقة تفكيره وتصقل عقليته وتوجهاته وحدوده، فلا يكفي الانتماء الفكري كما هو حال البعض، فالمثقف الذي لا يكون ابنا للشارع العربي ومن إنتاجه لا يمكنه أن يفهم الناس ومتطلباتهم الفكرية والثقافية على حقيقتها وأصالتها... وليس معيباً للمثقف أن يتظاهر بالانتماء لفكر وتبنيه له، كما قد يظن البعض بحيث يفسر هذا الانتماء والالتزام على أنه يخدش في جدية الباحث والأكاديمي والمفكر، وما يتطلبه الحياد العلمي والموضوعي والمنهجي بالنسبة للمثقف أو المفكر، خصوصاً عند الذين يأخذون بعين الاعتبار نظرة الرأسماليين لهم أو المراجع الدينية، والسعي للحصول على مكانة معترف بها في أوساطهم.
ينبغي الحذر الشديد في التعامل مع الثقافة الحديثة البناءة العلمانية الحقيقية، التي لا يجوز التحدث فيه بغير علم حتى لا تتلوث بما يدخله لها البعض من مستجدات وحتى لا تتأثر بالاتهامات الموجهة لها من الأنظمة الرجعية والأفكار الرجعية.
وأخيراً فإن المثقف في العالم العربي مطالب بأن يُعيد النظر في رؤيته للمواطن العربي أولا وللثقافة وطريقة نشرها من ناحية ثانية، ويصحح هذه الرؤية، وقد حصل هذا بالفعل مع البعض الذين وجدوا في العلمانية ضالتهم الحقيقية، واقتنعوا بأن أي مشروع نهضوي في الشعوب العربية لا يمكن أن يكون بعيداً عنها، وكل المحاولات الفكرية الرجعية التي حاولت أن تُغيب الحرية والعلمانية وان تشوهها أو أن تعزلها عن أطروحاتها التنويرية والتغييرية، لم تستطع النفاذ إلى عقول الناس، واصطدمت بواقع ثقافي فكري سائد وصار سمة العصر، بل يزداد به تمسكاً وإصراراً على الاهتمام به. فالمثقفون الذين حاولوا التوفيق بين الأفكار الرجعية وبين الحداثة والتقدم في مجتمعاتهم وجدوا أنهم قد عزلوا أنفسهم عن الناس.
وقد قلب نظرتهم إليها أي العلمانية حين ظهرت كأقوى عامل في خلق الانبعاث والنهوض في الشعوب، وهذا ما فشلت في تحقيقه كل الإيديولوجيات السابقة التي نقلها المثقفون من الفكر الرأسمالي من ناحية ومن الايدولوجيات المتوارثة التي وصلتنا في قمة التشويه بمرجعياتها الدينية أو القومية الغربية والشرقية، والتي وصلت إلى طريق مأزوم ومسدود.
فالمثقف بحاجة إلى أن يكتشف ذاته من جديد، ولن يكتشف هذه الذات من خلال تلك الإيديولوجيات التي جعلته غريباً عن ذاته ومحاولة التقرب إلى المواطن والشارع والناس متناسيا الضغوط التي تمارسها عليه الرجعية, وان يطرح ما بجعبته من فكر علماني حديث وحقيقي يساعد على النهضة والثورة والتقدم.