ما كنت أحسب أن صروف الدهر ستطردني من مدينة كيفهًَ،فكنت فيها كما قال الشاعر:
بلاد بها نيطت علي تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
أو كما قال آخر:
وقد تعشق الأرض التي لا هوى بها
ولا ماؤها عذب ولاكنها وطن
وقد ولدت بكيفه , وتعلمت ,وعلمت, وتوظفت وتقاعدت ، وكونت بها أسرة من 16فردا ،ورفضت العمل خارجها مهما كانت المغريات والعلاوات، فهي أرض تحبني وأحبها ،وبها جميع عشيرتي ،وأسرتي ،ومقابر أهلي : والدتي، وأخواتي، وأخي الأكبر، ومعظم أفراد عشيرتي . فأنا أظن أن أديم أرضها من هذه الأجساد .
ومع ذلك أرغمني المرض على الخروج منها والإبتعاد عنها مدة سنتين وسبعة أشهر، وكنت أقول كما قال الشاعر :
ماكنت أرجو من زماني هكذا
ولاكنني أرضى بما قسم الدهر
واليوم عدت إليها ولم يبق مني إلا نصيبها ،فوجدتها كما وجد الشاعر معروف الرصافي الأرملة يوم العيد حيث يقول :
لقيتها ليتني ماكنت ألقاها
تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها
أثوابها رثة والرجل حافية
والدمع تذرفه في الخد عيناها
إلي آخر القصيدة المعروفة المؤلمة التي تصور تلك المسكينة
وانا أيضا أقول:
مسكين كيفه تعبان
عطشان حت جعان
لوسخ رادمه واملان
منو موبوء مكروب
ألا تتوسل مولان
يارب تحسن لعكوب
فكيفه عندي اليوم مثل أرملة معروف الرصافي تطمرها الأوساخ ،وتعج بالجيف والفضلات ،وأنواع القمامة،والركود والشلل يصيب كافة أوصال الحياة بها ، على الصعيد الإقتصادي والإجتماعي والثقافي
فعلى صعيد التنمية الحيوانية والتي هي العمود الفقري الإقتصادي لسكان مدينة كيفه، يخيم عليها جو من الجمود، فلا مشاريع جديدة تخدم التنمية الحيوانية التي هي المورد الأساسي لمعظم سكان المنطقه ،ويعمل بها 2/3 من اليد العامله بهذه المقاطعة! فمعظم الأدوية البيطرية تستورد وتخزن وتستهلك بدون رقابة، وأغلبها لم يعد صالحا للإستخدام، مع أنها تباع جهارا نهارا للمنمين الأميين !
وكنت أعتقد أن كيفه بموقعها الوسطي التنموي الممتاز ،ومقدار ثروتها الحيوانية الضخمة تستحق على وزارة التنمية الريفية مدرسة لعلوم الثروة الحيوانية ، وكنت أحلم أن يكون مقر هذا المعهد أو المدرسة سيكون مستشفى كيفه القديم الذي سيرحل عنه قريبا والذي سيعطى بكل تأكيد لمن لايستحقه كدأب الأمكنة العمومية التي يستغنى عنها.
وعلى مستوى الزراعة حدث ولاحرج فهي مازالت بدائية موسمية وبدون توجيه أو إرشاد أو عون أو مبيدات حشرية أو أسمدة مخصبة للتربة أو أسيجة تحميها من الحيوان والهوام ، فهي عبارة عن مضيعة للوقت وبلا مردودية إقتصادية فهي هدرا لطاقة المساكين الذين يعتمدون عليها في حياتهم اليومية ولا يعرفون سواها وهم جميعهم من فئة الأرقاء الذين كانوا عبيدا تحت رحمة أسيادهم والتي أشد منها عليهم قطعا نير الفقر والحاجة .
وهؤلاء مازالوا أرقاء للفقرو الحاجة مع أن وضعهم المزري اصبح تجارة رائجة لكل سياسي من فئتهم وللسلطات العامة وكل يدعي تبني قضيتهم، وبدون أن يحصدو هم أي نتيجة من ذلك فأحوالهم يرثى لها اليوم على الرغم من الوكالات التي أنشئت لتحسين ظروفهم والأحزاب التي تدعي الدفاع عن قضاياهم فتسمع جعجعة ولاترى طحينا وعلى الرغم من أنهم يمثلون ثلث سكان هذه المدينة .
أما مستوى الماء الشروب فهذا مرض شابه هرم فالمدينة عطشانة منذ المهد وأعتقد أنها ستظل كذلك إلى اللحد .
وما بجانبها الغربي ووسطها من منشئات كان محمد بن بعمات قد تطوع بها في التسعينيات.أصبحت اليوم متهالكة لقلة الصيانة .
أما شرقها وأطرافها الشمالية والجنوبية لم تعرف طعم الماء الشروب ولم ترى أية حنفية قط وعلى الرغم من كثرة البحيرات الجوفية شرقها وغربها مثل (نكط) و(عيون النعاج).
كما أن مقاطعة كنكوصه أيضا القريبة منها مليئة بالبحيرات الجوفية مثل:(لعويجة)و(انضاوضة)و(جكم الفوار) و(انيركلية) وهذه لاتبعد أكثر من70ـ80 كم عن مدينة كيفه ومن يفندني من وزارة المياه ياخذ أجهزته ويتفضل معي وعلي تكاليف الرحلة.
أما من حيث الخدمات الصحية فهي تحت الصفر لعدة أسباب :
1ـضعف ميزانية المستشفى الوحيد بالولاية والذي يخدم أطراف الولايات المجاورة فميزانية هذا المستشفى لاتكفي لتسييره شهرا واحدا مهما تقشف مسيره.
ومع تطفل مسؤولي الخزينة والسلطات الإدارية عليها.
2ـقلة الأخصائيين خاصة في الأشعة، فالأطباء الكبار الأثرياء الذين يعملون 24ساعة في عيادات ومستشفيات أنواكشوط لن يرضو بالعمل في موريتانيا الأعماق لضعف دخل ساكنتها .
3ـنقص الأجهزة والمتخصصين بها في مصحات هذه المدينة .
أما على مستوى التعليم وما أدريك ماهو؟ فهو في هذه المدينة شكلا بلا مضمون وإسما بلا مسمى ؟ مدارس و تلاميذ من أبناء الفقراء أساتذة ومعلمين يعملون كل في مجاله الخاص فمنهم صاحب الدكان ومنهم صاحب التاكسي ،ومنهم الجزار والسباك وأرجو الله ألا يكون منهم الحانوتي .؟
لاتوجد كتب ،أكتظاظ في الفصول ،تغيب بلا رقابة ،درجات وهمية تعطى للأولياء الأمور بدون أستحقاق ويقف الحمار عند المحطة النهائية (باكولوريا) ضعف مستويات المكونين وعدم إعادة تكوينهم ؟؟؟؟؟؟؟؟ وشهد شاهد من أهلها .
ولهذا لايوجد مجال من مجالات الخدمات في هذه المدينة إلا وهو مصاب بحمى الشلل حتى الإدارة المحلية لايزورها زائر إلا في مجال النزاعات العقارية الموروثة من العهود الإدارية القديمة والتي مازالت حتى الآن بدون حل .
فمصلحة الإسكان والعمران مثلا هي اليوم إسم بلا مسمى فرئيس هذه المصلحة كان قد تقاعد منذ مدة ولم يعين بديلا له ومازال إسمه هو الموجود كرئيس مصلحة إذا ماجئت تبحث عن هذه المصلحة فستجد أن ابواب مكاتبها ونوافذها بنت عليها العنكبوت مخيما منيعا من خيوطها، أما إذا تفقدت حالة الكهرباء وخدماتها والتي لن تغطي اصلا المدينة فهي دائمة الإنقطاع وغالية التكلفة وضرائبها مثقلة وفواترها جزافية(تقديرية) وما أدريك ماهي نار حامية .
وبنيتها التحتية متهالكة ، اسلكة واعمدة منها ماهو ساجد ومنها ماهو في الركعة التالية………..
لكن ولله الحمد مازال ضوء الشمس يعم المدينة ومازال القمر يصلها ضوءه خافتا لكثرة الغبار وتلوث غلاف المدينة الجوي.
أما إذا نظرنا إلا التجارة فهي راكدة بسب ارتفاع اسعار وقود الناقلات التي كانت تنقل كغ الواحد ب7 اواق واصبحت اليوم ترفض نقله إلا ب15 أوقية.
فكيفه ذات الموقع الجغرافي الوسطي الممتاز تجاريا والتي كانت شاحنات البضائع تعج بها على مدار24ساعة منها ما يحمل ومنها مايحط بضاعته أصبحت أثرا بلا عين وعندما تسأل التجار عن هذه الوضعية يقولون إن سببها ضعف القوة الشرائية وارتفاع الأسعار الذي ذكرنا سببه سابقا وهجرة سكانها إلى انواكشوط ورتفاع الضرائب والرسوم والمكوس.
وحتى دكاكين امل اصابها هذا الوباء (الشلل الإقتصادي )
فمعظمها فارغ من البضاعة مع انه مفتوح ليلا ونهارا ولافتاته جديدة وبخط كبير وإذا مازاره محتاج يقولون إن البضائع لم تصل بعد فهي ما زالت في الطريق.
ومع ذالك فهذا النوع الفارغ من الدكاكين يعم المدينة أما على مستوى الشباب فوكالة تشغيل الشباب لا تذكر ولا ترى في هذه المدينة وشباب كيفه بل سكان كيفه الذين كانوا يشتهرون بالنشاط والحيوية والإحتفالات والأفراح والإستعراضات والألعاب لم ترى عيني ولم تسمع أذني من ذلك شيئا فهي في بيات إجتماعي وقد تجولت بكافة احيائها ليلا ونهارا كدأبي بها فلم اسمع صوت طبل ولم اشاهد تجمعا ولا فرحا ؟؟
وقيل لي انها منذ مدة لم تقع فيها مناسبة اجتماعية الا بشكل سري او شبه سري لقلة المال لدى السكان ، فسكان المدينة اليوم يعيشون في خوف وهلع من شدة الظروف الإقتصادية السيئة المعششة في هذه المدينة وانا لم ارى ولو ضوء خافتا في هذا النفق المظلم الذي يقبع فيه سكان هذه المدينة ،فهم يعيشون في حمى ارتفاع الأسعار الجنوني.
سألت احدهم بكم كغ الواحد من الأرز بكيفه ؟فقال لي ب 560 أوقية.
فالمدينة اصبحت طاردة تماما لشلل خدماتها وارتفاع اسعارها .
فهي تشهد الآن مجاعة صامتة يحدث هذا في صمت من اطرها المنحدرين منها والمنتخبين الذين يتحدثون بإسم سكانها على المنابر الوطنية….
لا يهتمون الا بمصالحهم الذاتية ومن لا يهتم بمصالح اهل كيفه فليس منهم، والإداريون يكتبون في تقاريرهم ان كيفه مدينة مزدهرة يعمها الرخاء والرفاهية وبدون خجل او وازع وطني مع ان من كان يعرفها مثلي وشاهدها اليوم يظن انها في حالة مرض مخيف وشلل تنموي اجتماعي شامل . وانا اتوقع انه بمجرد ان يبدء فصل الحر ستصبح مدينة اشباح .
فهل من مغيث ؟واغوثاه